النظام الأبوي وثنائية التسلط والخضوع

عن المركز العربي للمصادر والمعلومات حول العنف ضد المرأة

ان ترسيخ البنية الفكرية الماضوية للعقل العربي انتج تواطؤا غير معلن بين السلطة والنظام الأبوي، لان كلاهما ذو نزعة استبدادية ـ قمعية وقفت حجر عثرة في مسار الاصلاح والتحديث والتقدم الاجتماعي وولدت عجزا عن توليد تيارات اجتماعية و ثقافية نقدية فاعلة لها القدرة على تغيير العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التقليدية وتجاوزها الى صياغة مشروع نهضة تحديثية يمتلك مقومات البقاء والتطور والاستمرارية.

مفهوم النظام الأبوي

والنظام الأبوي- البطريركي* هو بنية اجتماعية وسايكولوجية متميزة تطبع العائلة والقبيلة والسلطة والمجتمع وتكون علاقة هرمية تراتبية تقوم على التسلط والخضوع اللاعقلاني الذي يتعارض مع قيم المجتمع المدني واحترام حقوق الانسان نتج عن شروط وظروف تاريخية واجتماعية وثقافية وعبر سلسلة من المراحل التاريخية والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية المترابطة فيما بينها حيث ترتبط كل مرحلة منها بمرحلة انتقالية تسبقها حتى تصل الى مرحلة النظام "الأبوي الحديث".

ومن الناحية البنيوية فالنظام الأبوي يتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك ويرتبط بنمط معين من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي السابق على الرأسمالية. وهو يتخذ من المجتمع العربي شكلا نوعيا متميزا يقابل المجتمع الحديث، من خصائصه قابليته على الاستمرار وعلى مقاومة التغير والمحافظة على القيم والاعراف التقليدية القديمة.

وعلى الصعيد الاجتماعي يهيمن النظام الأبوي على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تغلب عليها الانتماءات القبلية والطائفية والمحلية، لان المجتمع الأبوي هو نوع من المجتمعات التقليدية التي تسودها انماط من القيم والسلوك واشكال متميزة من التنظيم. وهو يشكل لذلك، كما قلنا، بنية نوعية متميزة تتخذ اشكالا مختلفة من بينها بنية المجتمع الأبوي العربي، الذي هو اكثر أبوية من غيره من المجتمعات واشد تقليدية واكثر محاصرة لشخصية الفرد وثقافته وترسيخا لقيمه واعرافه الاجتماعية التقليدية وتهميشا للمرأة واستلابا لشخصيتها، لانه ذو طابع نوعي وخصوصية وامتداد تاريخي يرتبط بالبيئة الصحراوية والقيم والعصبيات القبلية التغالبية. فمن المعروف ان العالم العربي هو اعظم موطن للبداوة مثلما هو اكثر مناطق العالم تأثرا ومعاناة في الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة، كما اشار الى ذلك علي الوردي في كتابه "طبيعة المجتمع العراقي "، ذلك الصراع الذي ما يزال يؤثر في بنية الثقافة والشخصية العربية.

تمتد جذور النظام الأبوي العربي الى النظام القبلي الذي يقوم على صلة الدم والقربى والعصبية القبلية، وتكون من شروط تاريخية وجغرافية وثقافية وذلك عن طريق سيطرة الثقافة البدوية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن طريق نظام القبيلة ( المشيخة)الذي كان بديلا للدولة وادارتها كتنظيم اجتماعي يقوم على القيم والعصبيات والعلاقات العشائرية التغالبية.

وبالرغم من ان الاسلام حاول تغيير البنية القبلية وجاء بمفهوم "الامة" بديلا لمفهوم العصبية القبلية، الا ان النظام القبلي بقي مهيمنا على المجتمع والدولة حيث استمرت القيم والتقاليد في تأثيرها على العلاقات الاجتماعية. كما استمرت الصحراء العربية برفد القرى والارياف بموجات بدوية مستمرة خضع لها سكان الارياف والمدن وتأثروا بقيمها واعرافها وعصبياتها وذلك بسبب ضعف الدولة المركزية، بعد سقوط الدولة العربية ـ الاسلامية وعاصمتها بغداد على يد هولاكو عام 1256 مما سبب هيمنة النظام القبلي والمحلي على المجتمع وبصورة خاصة على بنية العائلة الممتدة في علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية واستمرت حتى العصر الحديث بشكل او بآخر، بالرغم من دخول كثير من عناصرالتحديث اليه، لان الدولة الحديثة ما زالت لم تكتمل وتنضج بعد، وكذلك مفهوم الوطن والمواطنة والهوية، التي ما زالت مفاهيم هلامية اولا، ولان تركيب بنية العائلة العربية في شكلها الاولي لا يختلف كثيرا عن تركيب بنية القبيلة العربية لعصر ما قبل الاسلام، الا في بعض مظاهرها الخارجية التي تأثرت بالتحديث، وليس في سلوكها ومضامينها وقيمها وذهنيتها ثانيا. كم ان النظام الأبوي هو بنية سايكولوجية ناتجة عن شروط تاريخية وحضارية نوعية تكونت من مجموعة من القيم والاعراف وانماط من السلوك التي ترتبط بنظام اقتصادي تقليدي له خصوصية وبواقع اجتماعي حي، وليس مجرد خاصية من خواص نمط انتاج معين بالعالم العربي.

** خصائص النظام الأبوي

ن اهم خصائص النظام الابوي التقليدي انه يقوم على العصبية القبلية وتماهي الفرد مع القبيلة التي تبادله الولاء بوصفها مسؤولة على الصعيد الاجتماعي والسياسي عن كل فرد من افراد القبيلة، وهو ما يؤدي الى تعزيز النظام القبلي القائم على العصبية، الذي يجعل من العائلة حجر الزاوية في البنية الاجتماعية كما تفترض ان بنية القبيلة هي "كل" لا يمكن تجزئته باعتبارها عائلة موسعة او عشيرة او مجموعة من العشائر التي تكون القبيلة، التي تعزز كيانها بسيطرة مزدوجة : سيطرة الاب على العائلة وسيطرة الرجل على المرأة والولد على البنت، بحيث يبقى الخطاب المهيمن هو خطاب الاب الذكر واوامره وقراراته.

وقد اتخذت "الأبوة " صفتها من صلة القربى والدم وضرورة احترام الابن لأبيه والقيام على خدمته. ولا زالت تقاليد تقديم الأبن فروض الطاعة لأبيه واحترامه مستمرة حتى اليوم. كما ان احترام الأبن لأبيه هو الاحترام نفسه لعشيرته مركزا في شخص واحد يمثلها هو شيخها. وفي الحقيقة فان سلطة الأب ما هي الا مظهر فردي لسلطة القبيلة. ورغم مرور مئات السنين بقي المجتمع العربي مجتمعا قبليا يتكون من وحدات اجتماعية اساسها القرابة التي تتمثل بالعائلة، التي هي جزء من الحمولة فالفخذ فالعشيرة فالقبيلة فاتحاد القبائل الذي يشكل المجتمع باوسع صوره.

وتتكون الاسرة العربية من عدة عوائل عموما، وهي اسرة ممتدة كبيرة الحجم التي تشكل السمة الاساسية لبنية العائلة العريبة حتى منتصف القرن الماضي وتضم كل المتحدرين من جد ذكر واحد وينصهرون في وحدة واحدة ويحمل جميع افرادها اسم الجد الاول للاسرة.

وفي الارياف العربية ترتبط بنية العائلة ارتباطا وثيقا باسلوب الانتاج الاقتصادي السائد والعلاقات الاجتماعية التي تشكل الارض والزراعة ركزتها الاولى والاساسية، وتعكس بشكل واضح بنية النظام القرابي الذي يقوم على التضامن والتماسك والتعصب العائلي في مواجهة المشاكل والاعباء والصراعات مع العوائل الاخرى ومع الحكومات وغيرها. ولذلك تحتاج العائلة الى تكثير النسل لرفد الارض بايدي عاملة ذكورية كثيرة والزواج المبكر ومن داخل العائلة (ابن العم وابنة العم) وكذلك تعدد الزوجات التي تفرضها وحدة العمل في الارض. وهكذا بقيت العائلة العربية الممتدة حتى وقت قصير تشكل وحدة اجتماعية انتاجية بفعل استمرار الظروف والشروط البنيوية لتطورها حتى نهاية القرن التاسع عشر.

ويلاحظ المرء بقاء مظاهر سلوكية ما تزال تفعل فعلها في اعادة انتاج العلاقات القرابية، التي تظهر في الميل الى التقارب السكني في منطقة واحدة او مدينة واحدة وتوثيق علاقات القرابة بحضور المناسبات العائلية المختلفة وبخاصة في مناسبات الزواج والاعياد والوفيات وغيرها. وما زال الزواج الداخلي يشكل النموذج المفضل لدى كثير من العوائل العربية الممتدة. كما يمتد النظام الأبوي ـ البطريركي العربي الى تشكيلات السلطة التي ما زالت تعتمد على النفوذ العائلي، وما زالت التكتلات العائلية والعشائرية والطائفية تلعب دورا هاما وبارزا في كثير من القرى والارياف وحتى في كثير من المدن العربية.

وليس من النادر ان نجد افراد قبيلة واحدة اوطائفة واحدة اومدينة واحدة او منطقة واحدة يسيطرون على السلطة والدولة والنفوذ ويتحكمون في رقاب الناس. وهذا دليل على ان السلطة الابوية ترتكز على العائلة الممتدة، التي هي النمط القرابي السائد، الذي يمتد الى النظام السياسي الحديث و يستمد شرعيته من كونه نظاما قرابيا أبويا يطرح الحاكم نفسه فيه على انه "الأب القائد" وان جميع افراد الشعب هم ابناءه، وعليهم جميعا واجب تقديم الولاء والطاعة والخضوع له دوما، وفي ذات الوقت ينتظر "الأب القائد " من ابنائه الولاء المطلق له.

** ثنائية التسلط والخضوع

ان هذه العلاقة التي تتحكم بين الرئيس والمرؤوس، في العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، هي شكل من السيطرة الأبوية الهرمية التي تقررثنائية من التسلط والخضوع بين الحاكم والمحكوم التي تولد صراعا اجتماعيا وتناشزا نفسيا من شأنه تضخيم الذكورة وتبخيس الانوثة وجعل الولد الاكبر (البكر) رجلا متسلطا.

وتنتقل هذه العلاقة التسلطية من البيت الى المدرسة والوظيفة والمصنع والمؤسسات الامنية والعسكرية وحتىاعلى قمة في هرم السلطة. كما تقوي التنظيم البيروقراطي، الذي يقوم على القمع والطاعة والخضوع ويحول الافراد الى مجرد ألات بحيث تمسخ شخصياتهم وتغتصب حقوقهم وتمتلخ انسانيتهم.وبهذا المعنى فالاستبداد لا يعني بلوغ الرشد، وانما اللارشد، الذي لا يحرر الانسان، وانما يقيده بسلاسل من الجهل والخوف والخنوع، بحيث يفقد المرء الثقة والاحترام المتبادل مع الاخر ويتحول الى المجتمع والثقافة. وهكذا يكشف النظام الأبوي وجهه الاستبدادي القمعي وترسيخه لقوة الموروث التقليدي. في مثل هذه المجتمعات الأبوية التقليدية تصبح الثقافة هجينية بل ومهجنة وتستخدم كأداة خطاب للسيطرة والخضوع، بدلا من التواصل والتفاهم والحوار العقلاني الرشيد.

* انظر كتابنا " النظام الأبوي واشكالية الجنس عند العرب "، دار الساقي، لندن- بيروت 2003."