صمت الطواحين

في أجواء الدّلتا المصرية ... يوسف أبو رية يرصد في روايته صعود أُسرة وأُفولها

محمد برادة
الحياة - 26/04/07

الذين قرأوا روايات سابقة ليوسف أبو رية، مثل «عطش الصبار» و «تل الهوى» و «ليلة عرس»، يتذكرون جيّداً حرصه على صنع خريطة دقيقة وتفصيلية لبلْدات تقع أساساً في الدّلْتا، ينحت تضاريسها عبر فضاءات الريف وشخوص يعيشون في مناخ التقاليد الموروثة التي تجعل سلوكاتهم تبدو خارج الزمنية التاريخية، على رغم أن أحداثاً مهمة تتناهَى إلى أسماعهم وتلقي بظلالها على مجرى حياتهم... ومن داخل تلك البلدات المهمَلة، شبه المنسية، استطاع أبو رية أن يرسم ملامح لتاريخ يمتزج فيه اليومي بالأسطوري، ويضطلع الفانتاستيكي بنسْج الحبْكة وابتعاث الحركة في تلك الأجواء الريفية.

في روايته الجديدة «صمت الطواحين»، يقسم أبو رية النص إلى أربعة فصول تحمل أسماء ثلاث بلدات: الصوالح، الجزيرة، طناح، والجزيرة مرة أخرى. وبين هذه البلدات فُروق تضيء جوانب من قصة الأسرة التي يحكي الكاتب قصة صعودها وأُفولها، حيث ان «الصوالح» يسكنها البدو، و «الجزيرة» يقطنها مَنْ هم من أصل عربي، أما «طناح» فقد أقام فيها، إلى

تاريخ قيام ثورة 1952، أوروبيون كانوا قد وفدوا اليها من مستعمرات تركية سابقة، وحملوا معهم طرائق العيش الغربية وشيّدوا فيلاّت وقصوراً ومقاهي: «قطعة من أوروبا بين قارّة من فلاّحين غِلاظ، خَشِني الطّباع، لا يرحمون، تلوكُ ألسنتُهم سيَر الخلْق بمعايير أخلاقية بالية.(...) الآن تدنو هذه البلدة من السمات المميزة للقرى المصرية كافّة، هُجرتْ القصور، وتآكلتْ واجهاتها المُغبرة، وتحول الكثير منها إلى مدارس أو مستشفيات أو إدارات للنظام العسكري الحاكم» ص114.

في تلك المنطقة من الدّلتا، ينسج أبو رية اللحظات الأساس في مسار فرع من أسرة آل خليفة التي بنت ثروتها ونفوذها من تشغيل طواحين القمح والرز... والأمر يتعلق، عند انطلاق الرواية، بتجديد سلطة عائلة آل خليفة على يد الحاج أبو المعاطي الذي سعى إلى تخليص الطواحين من سيطرة أبناء عمّه الذين استغلّوا والده وأنفقوا الأموال المُحصلة على سهراتهم الماجنة. يستعيد أبو المعاطي الطواحين مستعيناً بأخويْه أبو العلا ويونس، ويأخذ في توسيع دائرة المشروع عبر البلْدات المُجاورة، لكن مسار حياته تغيّر عندما التقى في «الصوالح» بـ «شهدة» التي كان يعرفها فتاة صغيرة في «الجزيرة»، وهي الآن رائعة الجمال، متزوجة من طه الغمراوي، بائع الكيروسين الذي لا تحبه... وعلى رغم أن الحاج أبو المعاطي متزوج فإن جمال شهدة أيقظ عاطفته وأجّج شهوته، فأخذ يُدبر الأمر ليفصلها عن زوجها، ثم تزوّجها مُستعيناً بثروته ونفوذه. بهذا السلوك: تجديد الفراش بزوجة ثانية، وتوسيع البيت ونُقَط ارتكاز الطواحين في بلدات الدّلتا، يكون الحاج أبو المعاطي قد وطّد نفسه «مُؤسّساً» للعائلة من جديد، ومن ثمّ اهتمامه بدعْم ابنه «فرَج» ليصبح سنَده وخليفته، مُتخطياً بذلك أخويْه أبو العلا ويونس. يرسل إذاً ابنه إلى طناح ليراقب عمّيْه ويتعلم منهما، في الآن نفسه، حرفةَ تدبير الطواحين: «.. والآن يخضع لرغبة الأب في ترك طاحونة الجزيرة ليلحق بأعمامه في طاحونة طناح. قال له قبل المغادرة: لا تكفّ عن مراقبتهما وتُبلغني بأي أمر تستشعر منه التحالف ضدّنا...» ص 140. كان الأب يخطط كل شيء ليستكمل شروط المؤسس البطريركي، فأغرى فرج بالبحث عن فتاة من أُسرة عريقة في طناح، تعرف أُصول المعاشرة وتحسين النسل، فيُعضّد زواجه مركز الفرع الثاني لآل خليفة، ويتلاقح الفلاحون بسُلالة أسرة محمد علي مُستفيدين من أراضي الباشوات. وعندما التقى فرج بشاهناز، سرعان ما تبادرتْ إلى ذهنه الفكرة التي كانت تراود أباه، بل تشكّل أفقاً مشتركاً في المناخ السياسي بعد ثورة 1952: «... فلأخلطْ ثروتنا الجديدة بعراقة نسَبها، ونُنجب أبناء يجمعون العنصريْن معاً، ويشكلون كائنات الأرض الجديدة التي يبشر بها زعيم الضباط» ص141. لكن توقّعات فرج ذهبت أدراج الرياح، لأن شاهناز حملت إليه تجربة الحب التي لم يسبق له أن عاشها.

لم تدم سعادة فرج طويلاً لأن أباه انجذب إلى جمال شاهناز وراودها عن نفسها فرفضتْ، فاستشاط غضباً وأرغم ابنه على تطليقها.

حينئذ تبدأ مرحلة الجحيم التي قادتْ فرج إلى نهايته، والعائلة إلى التلاشي: يتزوج فرج أكثر من مرة، يتنقل بين المهن، يسافر إلى خارج مصر، لكنه في كل مرة يعود بخيبة كبيرة عاجزاً عن نسيان شاهناز الزوجة والحبيبة: «هل كان ترتيباً من القدر؟ أكان لا بد أن يحدث ما حدث لكي ألتقي بها؟ اسألوا الأقدار، أو اسألوا أبي الذي جاء في زمن تعلق فيه بإرادة

الطواحين(...) اسألوا الزمن الذي ضبط ساعته على هذا اللقاء في ضحى هذا اليوم عند هبوطي من قطار الدلتا، فيصطدم الحنطور بالكارتة لألتقي بها عند خروجها لزيارة مقبرة أبيها « ص151.

على رغم وجود شخصيات متمايزة تؤثث رواية «صمت الطواحين»، مثل شخصيات أبو العلا ويونس ونور، عليوة وشهدة وعبدالسلام المنصوري، فإن بناء النص يقوم على قصتيْن وحبْكتيْن مدارهما الأب وابنه فرج، وهذا ما يغري القارئ بأن يصوّب زاوية التأويل نحو البنية البطريركية التي يُعاد إنتاجها ضمن شروط اجتماعية واقتصادية مُغايرة،

إلا أنها تستمر في ممارسة التأثير السلبي نفسه الذي يطبع العلائق المحكومة بالاستبداد والتي تقف حجر عثرة أمام نموّ الفرد في وصفه كياناً وحرية، يبتدع المستقبل ولا يقتصر على استنساخ قيَم ماضوية.


تحالف مجهض؟

في رواية «صمت الطواحين»، يحتل سرد قصة ترميم أبو المعاطي للفرع الثاني من عائلة آل خليفة القسط الأوفر من النص، وما تبقى يسرد مأساة فرج وانحداره هو والعائلة؛ ومن هذه الزاوية تبدو الرواية وكأنها تبتعث حيَوَاتٍ وتعيد تجسيد فضاءات تتصل بمهنة طواحين القمح والرز في بلدات الدلتا... إلاّ أن التاريخ الحدَثي المُتواري خلف الشخوص ووصف

تفاصيل الحياة اليومية وصفاً مُقتصداً، سرعان ما يثير انتباهنا عبر تعليقات مقتضبة، إلى عناصر ترميز يتقصدها الكاتب خلسةً ومن دون طنطنة أو تصريح. وأول ما يلفت النظر، تلك الصورة التي رسمتها الرواية للأب البطريركي من خلال تعرُّجات غير مألوفة، لأن أبو المعاطي يبدو لنا أول الأمر إنسانياً في ضعفه أمام شهدة الجميلة التي حركت شهوته وهو على عتبة السن الحرجة... إلاّ أن استقواءه واتساع ثروته جعلاه يرتدُّ إلى البنية الموروثة التي تربط صورة رئيس العائلة والأب «المُؤسس» بالسلوك المستبدّ، وبشخصية الآمر الذي يُستجاب لما يشتهيه. على هذا النحو تبرز من ثنايا النص، إيقونة ترسم ملامح بطريركية للأب الذي يبيح لنفسه تحقيق رغائبه واشتهاءاته الذاتية، وفي الآن نفسه يفرض على زوجتيْه وابنه الخضوع لأوامره وردود فعله المبنية على الأنانية ( مُراودته لزوجة ابنه) وعلى النزعة الاستبدادية (إرغامه الابن على تطليق شاهناز): «رحل الجميع وبقيت شاهي بوضاءة بشرتها، ونور وجهها المشع في مواجهة مع شيخوخة الزوج الأول (فرج) الذي لم يبق له من زمنه القديم سوى عشقه لها، لو استقبل ما استدبر من أيامه، لو كان الأمر بيده لا بيد أب جبار، متكبر، يريد أن يقول للولد كن فيكون، لم يتحرر من سطوته أبداً، ولم يقدر يوماً على الفكاك من فلكه. حاول يوماً فترك العمل في الطاحونة بعد أن أُجبر على تطليق شاهي «وبلد تشيله وبلد تحطه» فالتقطته جماعة الإخوان المسلمين، قالوا له: سنوفر لك وظيفة وزوجة...» ص165.

العنصر الآخر لتأويل «صمت الطواحين»، يتجلى في ذلك الزواج بين فرج الفلاح «الصاعد» وشاهناز سلسلة الأسرة الحاكمة والطبقة البورجوازية التي كانت تملك الأراضي الشاسعة. يبدو هذا الزواج بمثابة ترميز يستحضر تلك الفكرة التي أشار إليها بعض مَنْ أرّخوا للناصرية، والذين يذهبون إلى أن من أسباب فشل ثورة 1952 كوْنها لم تنجح في عقد تحالف مع الطبقة البورجوازية التي كانت تتوافر على قوة اقتصادية وخبرة في الإدارة والتدبير، وانفتاح على القيم التحديثية... ونجد الكاتب يدسّ هذه الفكرة على النحو الآتي: «مَنْ كان يتخيل ما حدث؟ أن يُطرد الملك آخر سلالة أسرة محمد علي، ويغادر الجيش الانكليزي مدن القناة، وتُصادَر أراضي الباشوات، بل من كان يتصوّر أن يهرع الأجانب لمفارقة البلاد تاركين ثرواتهم لعمّالهم من أمثال المنصوري؟ فلأخلطْ ثروتنا الجديدة بعراقة نسبها وننجب أبناء يجمعون العنصريْن معاً ويشكلون كائنات الأرض الجديدة التي يبشر بها زعيم الضباط « ص141. كأن الكاتب يريد أن ينبهنا إلى أن تلافي إعادة إنتاج البنية البطريركية واستبداد الأب، إنما هو مرتبط بتغيير عقلية الفلاحين وسلوكهم من خلال تزاوُج مع الطبقة التي استوعبت قيم الحداثة والعصر... ونتيجة لهذا التحالف المُجهَض، يعيش المجتمع المصري تقهقُراً يتيح لإيديولوجيا الأُصوليين الانتشار والرّواج.

إن أحداث «صمت الطواحين» لا تكاد تتعدى ثلاثة عقود زمنية، لكنها تؤرخ عبر السرد والشخوص والكلام، لصعود فرع من آل خليفة وأُفوله، كما تؤرخ لاندثار تأثير الأُسر المُتحدّرة من أصول أوروبية وتركية في بلدة طناح، إلى جانب بروز المستفيدين من الأملاك المؤممة في العهد الناصري... من هذه الزاوية، يمكن اعتبار «صمت الطواحين» بمثابة روايةِ أجيال من نوع خاص، لأنها تقوم على البناء المشهدي المُحيل على جرَيَان الزمن المُتقافز، وعلى الصوغ في حده الأدنى الخالي من التّزيُّد والحشو والوصف غير الوظيفي. وتأخذ اللغة في النص، منحى الدّقة والاقتصاد والتهجين المُوَلّد لدلالات تخدم خصوصية فضاء الرواية. وفي نطاق تعديد الأصوات واللغة، تطالعنا ثلاث رؤىً على لسان الإخوة الأربعة، مكتوبة بلغة شعرية لافتة، وكأن الكاتب أراد أن يخفف قليلاً من «نثرية» اللغة السائدة في النص والتي هي مُبررة وملائمة لأجواء الحياة الريفية اليومية، بينما تبدو تلك الرؤى ذات اللغة المُصفاة وكأنها مُسقَطَة من فوق.

إن «صمت الطواحين»، في نهاية التحليل، تدعم عوالم يوسف أبو رية الروائية، وتنطوي على متعة وتأملات موحية تُعيد إلى الواجهة التاريخَ المُهمَلَ لبلدات الدّلْتا، كما تحرك أسئلة تمس تواريخ الأفراد والأُسر والأنظمة في مصر الحديثة.