بعد نصف قرن من الكتابة خيري شلبي يكشف أسرارا عن الجانب الآخر من حياته

حوار: هشام عطية - أخبار اليوم

خيري شلبي حدوته مصرية.. استطاع عبر أكثر من نصف قرن ان يعيش بين البسطاء ليكشف في ابداعاته عن أحلامهم وانكساراتهم روائي من طراز فريد.. الكتابة لديه كالهواء والماء.. يكتب وكأنه يتنفس حتي وصل إلي القمة كأحد أهم رموز الابداع بعد ان خاض رحلة حياة شاقة وصعبة عاش خلالها بين الحرفيين والمهمشين وعمال التراحيل وعمل في العديد من المهن التي لاعلاقة لها بالأدب بحثا عن لقمة العيش وسعيا وراء بناء مؤسسة خيري شلبي الابداعية. 'أخبار اليوم' من خلال هذا الحوار تستضيف روائي مصر خيري شلبي ليكشف عن الوجه الآخر في حياته وتستعيد معه ذكريات نصف قرن من الابداع والعذاب والشقاء حتي وصل إلي منصب كبير الحكائيين في مملكة الرواية المصرية.

بعد هذا المشوار الابداعي الطويل كيف استطاع خيري شلبي ان يدخل بالأدب العربي إلي مناطق جديدة ظل بعيدا عنها لفترات طويلة؟ منذ صغري وأنا شغوف بقراءة الأدب العربي القديم خاصة أدب السير الشعبية التي تمتليء بجميع الأشكال الفنية للكتابة الابداعية وتفتحت عيني في بداية مشواري مع الرواية علي اعمال الكثير من كبار الروائيين أمثال يحيي حقي وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وتعلمت منهم الكتابة بأشكال فنية حديثة بعيدة كل البعد عن السير الشعبية التي كنت من عشاقها ولكن ابداعات هؤلاء الأساتذة لم تقودني إلي العالم الساحر الذي تجسده ملاحم السير الشعبية وهو عالم الحارة والحرفيين والمهمشين هذا العالم قدمته السير ببراعة فائقة وكان له تأثيره الواضح علي كتاباتي وابداعاتي حيث تمكنت من الدخول بالأدب العربي إلي تفاصيل حياة هؤلاء المهمشين الأمر الذي خلق لي عالمي الابداعي المتميز.

لقمة العيش

هل يعني ذلك ان شغفك بالكتابة عن الحارة والمهمشين كان وراء عملك في مهن لاعلاقة لها بالابداع أم انها كانت محاولة من أديب لزيارة واكتشاف عوالم غريبة تساعده في الكتابة؟ في بداية حياتي عملت في العديد من المهن التي لاعلاقة لها بالأدب والابداع ولم يكن هدفي من وراء ذلك القيام بتجارب تفيدني في أعمالي الروائية ولكن كانت بهدف البحث عن لقمة العيش فقد عملت في جمع القطن ومنذ أن كنت طفلا صغيرا تعلمت مهنة الخياطة والحدادة ثم النجارة واشتغلت لمدة ثلاثة مواسم مع عمال التراحيل وخلال تلك الفترة زرت معظم محافظات مصر.

ولد الطفل خيري شلبي في لحظة فارقة في حياة أسرته بعد أن تبدلت بها الأحوال من الثراء الفاحش إلي الفقر الشديد ما تأثير هذا الانقلاب علي ابداعاتك؟ بالفعل أنا من أسرة جار عليها الزمن وانقلب حالها وأصبح الطفل خيري شلبي الذي يتأهب لدخول المدرسة مطالبا بالانفاق علي تعليمه بل وأسرته فبدأت رحلة الشقاء في حياتي وعملت في العديد من المهن كما ذكرت ومنها مهنة بائع في محلات كثيرة وسمسار بضائع وهذا ما صورت جانبا منه في روايتي 'زهرة الخشخاش' وكان ذلك في مدينة الاسكندرية التي انتقلت إليها في محاولة لتغيير مسار تعليمي حتي التحق بالجامعة وتجربتي في الاسكندرية كانت خصبة وهناك أدركت ان مستقبلي ان أصبح كاتبا وكنت في خلال تلك الفترة اكتب الشعر وبعد فترة تأكدت موهبتي الحقيقية في القصة والرواية وبذلت جهودا مضنية لكي يتخلص أسلوبي من الموازين الشعرية التي كنت أسيرا لها.

عمال التراحيل

ماذا استفاد الروائي خيري شلبي من كل المهن التي عمل بها وكيف أثرت فيك تجربة الحياة مع 'عمال التراحيل'؟ عندما انتقلت إلي الاسكندرية كنت قد بدأت بالفعل في كتابة القصة غير الشعرية وكان حلمي ان أكتب قصة حياة أبي الذي تزوج بعد أن بلغ الستين من عمره وانجب 17 طفلا فأصبح في هذا العمر مطالبا بأن يخترع لنفسه عملا ينفق منه علي أولاده ولكن عندما اندمجت في تجربة 'عمال التراحيل' تضاءلت قصة أبي وأصبحت لاتكاد تكون شيئا بالنسبة للقصص التي كنت استمع إليها من هؤلاء العمال والتي جسدتها في روايتي 'السنيورة'. ويضيف الروائي خيري شلبي قائلا: بعد أن أصبحت روائيا اكتشفت انني مازلت علي علاقة وثيقة بهؤلاء العمال فقد تعلمت منهم قيما أخلاقية وفنية وتعلمت منهم فن الحكي الذي تعلمته في السابق من السير الشعبية إضافة إلي القدرة علي التعبير عن مشاعر حياتية حية نابعة من الشعور واللقطات المعبرة عن الحالة الإنسانية التي تنبع من الإحساس الصادق بالموقف الذي يعيشه الإنسان كما تعلمت ان النكتة المصرية هي المعلم الأول لمن يريد ان يكتب القصة فالتنكيت الفني البارع الذي تحققه هذه النكات لم يصل إليه خيال أي كاتب مصري أو عالمي علي الإطلاق.

هل يمكن القول ان كل هذه المعاناة التي صادفت الروائي خيري شلبي في حياته هي التي خلقت عالمه الروائي المنفرد؟ اعتقد انه لو سارت حياتي بشكل طبيعي مثل أي إنسان عادي ولم أصادف كل هذه التجارب الحياتية الغنية لكنت تحولت إلي مجرد مثقف أو باحث وليس مبدعا فتخيل صورة طفل ولد في لحظة فارقة وكانت امجاد أسرته قد تحولت إلي مجرد صور علي الحائط ومنها صورة لجدي في الخاصة الخديوية وعمتي بالمصيف في اسطنبول وعمي مع أفراد العائلة المالكة وكانت هذه الأمجاد مازالت طازجة بينما أنا أعيش في حالة فقر شديد، هذا التباين الشديد جعلني أبحث خلف هذه الصور واتخيل المساحات الخالية بين أوضاعي الحالية وحياتي التي كان من المفترض أن أعيشها كابن لأسرة غنية واعتقد ان هذا أثري بالطبع تجربتي الابداعية.

حيلة فنية

البعض يؤكد ان ابداعات خيري شلبي هي نتاج لسيرته الذاتية ما تعليقك؟

هذا غير صحيح علي الإطلاق ولكنها إحدي الخدع الفنية التي استخدمها في كتاباتي وأنا أشعر بسعادة بالغة عندما يعتقد القراء انني أقدم جزءا من سيرتي الذاتية في أعمالي الابداعية فهذا يعني انني استطعت اقناع القاريء بأنني صاحب المشكلة وأنا اخترت الحكي بضمير المتكلم بحثا عن الحقيقة فالقاريء عندما يستمع إلي الحكاية من جذورها يصبح جاهزا لتقبل الأحداث التالية وهذه طريقة صعبة لايجيدها سوي كاتب صاحب تجربة عريضة ذات جذور ضاربة في أعماق الوجدان الشعبي وهذا اللون في الكتابة يمكن ان نطلق علي مبدعه انه واحد 'اتلطم' في الحياة فأصبح قادرا علي الحكي بأسلوب أبطال رواياته مهما اختلفت مهنهم وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية وأنا أضيف إلي أعمال الابداعية من سيرتي الذاتية القدر الذي يتيح الصدق في المشاعر الحقيقية لأبطال رواياتي.

بعد كل هذه المعاناة كيف تتعايش مع اسرتك الصغيرة والذين تحولوا إلي مؤسسة تسعي لإنجاح مشروع خيري شلبي الابداعي؟ أسرتي لم تتعامل مع رحلتي الابداعية بهذا المنطق ولكنهم اتاحوا لي الفرصة ان أظل وحيدا لسنوات طويلة تفرغت فيها للقراءة والكتابة واحيانا كانت تصدر بعض كتبي دون ان يدري أفراد أسرتي عنها شيئا إلا بعد صدورها بشهور عديدة فعندما ازدحم منزلي بالأطفال اتفقت معي زوجتي علي ان أبحث عن مكان لي اكتب فيه وبالفعل وبعد رحلة بحث طويلة وجدت ضالتي في حي قايتباي بالقرب من أحد الأحياء السكانية المتاخمة للمقابر.

هل يمكن ان تلقي الضوء علي تجربة الكتابة الابداعية من داخل المقابر؟ بالصدفة تعطلت سيارتي في حي قايتباي بحثت عن 'سمكري' لكي يقوم بإصلاحها وجلست إلي جانب ورشته انتظارا لإصلاح السيارة فوجدتني أكتب أجندة كاملة تتضمن أحداث وشخصيات روايتي 'الشطار' ومنذ ذلك الوقت نشأت علاقة حميمة بيني وبين هذا المكان استمرت لأكثر من ربع قرن وكتبت في هذا المكان العديد من رواياتي وأعمالي الابداعية.

كيف يتعامل الجد خيري شلبي مع أحفاده؟ أحفادي أهم شيء في حياتي ولدي حفيدان هما 'أحمد وزين' عندما كنت اسافر خارج مصر تظل صورتهما في خيالي لاتفارقني لحظة واحدة حتي أعود إليهما ولهما حق الدخول علي في أي لحظة حتي في لحظات الكتابة والابداع.