من قمع ثورات هاييتي إلي احتلال العراق: قصة العولمة


المؤلف:د. صالح السنوسي
الناشر -ميريت


ثمة ثورة لا تتحدث عنها كتب التاريخ كثيرا قادها العبيد عام 1791 في جزيرة هاييتي الذين جلبهم الفرنسيون للعمل في الزراعة بعد إبادة السكان الأصليين، وكانت ثورة عظيمة ­ بحسب تشومسكي أخافت أوربا كلها فجردت فرنسا جيشا جرارا ضم وحدات مقاتلة من بولاندا وهولندا وسويسرا وألمانيا ، ولكن الحملة أخفقت، وأنتصر الثوار بعد أن دمرت الجيوش الثروة الزراعية تماما وقتلوا ثلث السكان، ولكن الولايات المتحدة ماكانت لتقبل بوجود جمهورية من الزنوج قريبا منها لذلك فقد اعتادت غزو الجزيرة لتأديب السكان ، ويروي السكان قصصا مرعبة عن عمليات التأديب تلك التي تنوعت بين تعليق الرجال ورؤسهم لأسفل، وإغراقهم بعد وضعهم في داخل اكياس علي الألواح الخشبية ودفنهم احياء وسحقهم بالهاون، وإجبارهم علي أكل خرائهم، وربطهم احياء حتي يأكلهم الدود.. أو قذفهم في مراجل عصير قصب السكر المغلي.
هكذا فلم يكن خطاب بوش الأب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثالث والعشرين من سبتمبر عام 1991 الذي أعلن فيه نهاية صراع القوي العظمي، ونهاية الحرب الباردة ­ إذا ­ هو بداية قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعولمة، بل كان إعلانا نهائيا لتسلمها القيادة بعد سنوات طويلة من وضع أجداد بوش بدلا من المواطنين الأصليين في القارة الجديدة التي تم إكتشافها علي يد الأوربي المتحمس 'كريستوف كولمبس'، الذي وباكتشافه هذا ­ دشن لمرحلة جديدة من مراحل العولمة الأوربية ­ إستبدال المتوحشين ذوي الأذناب وآكلي لحوم البشر ( كما جاء في تقريره عن الهنود الحمر) بالمتحضرين الأوربيين أصحاب الثقافة الرفيعة والجنس الأرقي
في كتابه العولمة.. أفق مفتوح وإرث يثير المخاوف يتتبع د. صالح السنوسي استاذ الاقتصاد الليبي تاريخ العولمة باعتبارها مشروعا أوربيا شكل نسيجة الأقتصادي السياسي منذ القرن الخامس عشر، واكبه مشروع ثقافي كانت قيمه ومفاهيمه وحقائقه وأساطيره تغذي جهد الانسان الأوربي المندفع للسيطرة علي أرض وثروات الآخرين، وذلك تحقيقا لذاته المتفوقة تلك التي نظر لها مفكرون أوربيون من أمثال 'كوندرسيه' 
'وأوجست كونت' و'سان سيمون' باعتبار أن القيم الانسانية الغربية هي أفضل مالدي البشرية والخير الذي يجب تعميمه من أجل خلاص الجنس البشري حتي ولو تم ذلك بالقوة المسلحة واستعمار أراضي ودول الآخرين من اصحاب الثقافات المتخلفه والاجناس الأقل شأنا من الجنس الأوربي.
حدث هذا ­ وكما يقول المؤلف ­ في وقت كان التقدم الصناعي الأوربي يقف كخلفية قوية لهذه الرؤية وهذا المشروع بينما تتراجع مشروعات أخري لاسباب يصعب حصرها كالمشروع الاسلامي العربي الذي انحصر في ممالك ضعيفة يقوم عليها سلاطين فاسدون ومنحلون أخلاقيا.
بيد أن هذا المشروع العولمي الذي تشكل عبر ثلاث منظورات هي المنظور الشمولي والقومي والعرقي الإثني، حالت الصراعات الأيديولوجية داخل المركز ( أوربا) دون إستكماله ولتنتقل قيادته بعد الحرب العالمية الثانية إلي الولايات المتحدة الأمريكية التي يري المؤلف أنها كانت أحدي أهم الانجازات العولمية الأوربية في بداياتها، وتكتيكا مختلفا عن السابق، فلم تكشف أمريكا تحت رايات الحرب الدينية أو الحملات المقدسة وأنما عبر وجهة نظر أخري هي 'أوربة' العالم المتخلف أوعولمة القيم المتحضرة.
ويري الكاتب أن قيم الثورات الأوربية وفي مقدمتها الفرنسية لم تكن سوي إرهاصات لهذا المشروع، ومبررات أخلاقية مجردة اختفي وراءها الأهداف الأستعمارية الأوربية تماما مثلما تتحدث الولايات المتحدة الأمريكية وهي تقود جيوشها الجرارة في فيتنام والعراق عن الديموقراطية وحقوق الأنسان والسلام العالمي! علي أن التحدي الحقيقي الذي يواجه القيادة الجديدة لم يعد الصراعات الايديولوجية داخل المركز المعولم (بكسر اللام) كما حدث مع أوربا، ولافي المشاكل الاقتصادية والسياسية العالمية وإنما في ثقافات المناطق المستهدف عولمتها، مثل كيف يمكن استبدال تلك الثقافات بالنموذج الأمريكي الصرف وجعل هذه الثقافات مجرد ثقافة شعبية وفي وضع أدني من الثقافة النموذج، لاتصلح إلا للتواصل بين أبنائها في شؤونهم اليومية الصغيرة، ويدلل الكاتب علي وجهة نظره بأن الصراعات الحالية بين المركز والمستهدفين هي صراعات ثقافية بالأساس يصفها بعض مثقفي الغرب بالحرب الباردة الحضارية لاسيما بين الغرب والاسلام وهوماعبر عنه منظرو العولمة الجدد مثل هنتجنتون وغيره.
ويضع هؤلاء روشته لحسم الصراع لصالح المركز بالطبع تقوم علي إعادة صاحب المشروع الأساسي ( أوربا) علي رأس القيادة مع الولايات المتحدة الأمريكية وذلك عبر تحقيق تكامل إقتصادي سياسي عسكري وتنسيق بين سياساتها للحيلولة دون استغلال دول الحضارات الأخري للاختلافات القائمة بين أوربا والولايات المتحدة ( ألم تكن بريطانيا شريكا لأمريكا في غزو وإحتلال العراق)، ودمج دول أوربا الغربية وأوربا الوسطي في الاتحاد الأوربي وحلف الناتو، وتشجيع تغريب امريكا اللاتينية، وكبح القوة العكسرية والتقليدية وغيرالتقليدية للدول الاسلامية والصينية، والحيلولة دون تكامل اليابان مع الصين، والاعتراف بحق روسيا كمركز للارثوذكسية وبمصالحها المشروعة في الجنوب والمحافظة علي التفوق التكنولوجي والعسكري علي الحضارات الأخري. الكتاب: العولمة.. أفق مفتوح وإرث يثير المخاوف