قصة قصيرة لمحمد المخزنجي

ذلك الوميض

تعجب معاونوه من الأطباء المقيمين والاخصائيين الجدد عندما أخبرهم في اجتماع القسم أنه سيتولي عنهم مهمة المناوبات الليلية لبعض الوقت، وطمأنهم إلي أنهم سيحصلون علي مكآفات السهر كاملة كما لو كانوا يناوبون. كان واضحا أن الأمر مرتبط بحالتي الزوجين الكهلين اللذين أدخلهما مجانا في العنبر الخاص، ثم إنه أمر بإخلاء غرفة التمريض في العنبر الخاص لنقل محتويات غرفة الطبيب المناوب إليها، وزاد من تعجبهم أنه لم يشخص حالتي الكهلين، بل اكتفي بملء خانة العلاج في ملفيهما بمضاد اكتئاب وتوتر خفيف مع مقويات عامة، وكأنه لم ير في حالتيهما أكثر من وهن عصبي وتفاعل اكتئابي عابر، أو أنه يؤجل تشخيصهما برغم أن جسامة الأعراض لديهما تضعهما بارتياح في خانة الفصام التخشبي، خاصة مع هذه الجمدة وذلك التوهم عن ابنهما الذي فقداه والذي لم يتخليا عن الاعتقادات بأن عينيه كانتا تضيئان في الظلمة.
وهو يعد لنفسه كوب شاي العصر في غرفة الطبيب المناوب، وبالادوات ذاتها التي كان يستخدم مثلها منذ ثلاثين سنة: السخان البدائي والكوب الزجاجي البسيط الحميم، يتذكر شكوكه البكر في قطعية المعرفة التي كانت تزوده بها المراجع المعتمدة ويلقمها أياه أساتذته الذين بنوا أمجادهم علي تقديس هذه المراجع، يسترجع تاريخ النسيان الطويل لهذه الشكوك التي راح يطمرها بركضه العملي يوما بعد يوم حتي اختفت،اختفت لكنها لم تمت، وهاهي تخرج متأخرة ضارية، لتجعله يبدأ من جديد.
مع الغروب دار في مرور سريع علي اسرة العنبر العام، ولم يكن هناك ما يستدعي التدخل، لكن الشكوك كانت تصاحبه: كم حالة بين هؤلاء الذين مر بهم تم حشرها حشرا في قوالب التشخيص والعلاج المتبعة؟ كم صرخة استغاثة أو إنذار مما تجهله هذه القوالب جري كبتها؟ وكان يتهيأ بهذه الشكوك لما سيواجه به نفسه في تلك الغرفة من غرف العنبر الخاص.
وجدهما مستغرقين في النوم علي سرير واحد، يشكل جسداهما الضامران قوسين ناحلين يلوذ كل منهما بالآخر، لابد أن المرأة هي التي غالبت انهيار جسدها المتيبس وتعثرت صاعدة إليه لأن سريرها هو الخالي، ولابد أن الرجل غالب وهنه وتيبسه ليتزحزح مفسحا لها حيزا في سريره. أي حنان بائس أخذ يراه في صورتيهما نائمين امامه، حنان يشعره بكثافة الخزي، فيأمر الممرضة المصاحبة بالانصراف ويتهاوي جالسا علي حافة السرير الخالي يتأملهما ناعسين، ويشرد..
عندما رآهما في المرة الأولي كان ذلك بالعيادة الخارجية، في زحام كرنفال المعلم الكبير الذي يقام له كلما تنازل وتعطف علي تلامذته بمناظرة بضع حالات في العيادة.. حشد من المساعدين والنواب وأطباء التدريب والممرضات كانوا يشكلون حدوة حصان كبيرة من المعاطف والثياب البيضاء، وهو وراء مكتبه يتمركز داخل قوس الحدوة مواجها الفتحة التي يدفعون إليه من خلالها بالحالات، وقف الرجل والمرأة امامه متصدعين، وكصياد بارع أخذ يعلم متدربيه كيفية اقتناص الأعراض والعلامات المرضية بإصابات مباشرة. سأل عمن دفع الآخر للمجيء فقالت المرأة إنها هي التي ألحت عليه حتي قبل، فعاجل المرأة بلماذا ألحت عليه فسكتت متلفتة إلي عشرات العيون من حولها، ابتسم ابتسامة مطمئنة وهو يقول لها إن كل هؤلاء أطباء وعليها ألا تخجل منهم، وما أن تطامنت ملامحها لحظة حتي كرر السؤال فأحنت رأسها وهي تهمس بأنه صار يشك فيها بعد مجيء الطفل الذي انتظراه اثنتين وعشرين سنة، أغمض عينيه مفكرا بتركيز لبضع ثوان فيما ساد الصمت ثم فتحهما فجأة علي وجه المرأة مطلقا السؤال: ومن الذي يتهمك معه بالخيانة؟ فأجابت المرأة بحزن: القط. سرت همهمة خافتة في حدوة الحصان الضخمة البيضاء فمسحها بنظرة زاجرة، ومع عودة الصمت انحني خفيفا علي اوراق الرجل أمامه ملتقطا اسمه الذي خاطبه به سائلا إياه بصوت مترفق: ولماذا القط ياخليل، فأجابه الرجل مطرقا أسيفا: لأن عيون الطفل تضيء في الظلمة.
لم يزد إلا سؤالا واحدا يومها ليكمل الاسئلة الخمسة:هل تفكر في أن عيني الطفل تضيئان ام أنك رأيتهما تضيئان؟ وأجاب الرجل: أراهما تضيئان دائما في الليل. خمسة اسئلة لم تستغرق اكثر من خمس دقائق شيد عليها تشخيصه، وكان جمهور حدوة الحصان يتشرب انتشاءه بهذه الحالة المثيرة التي شرع يفككها ويعيد تركيبها امامهم: الازواج الذين يتأخرون في الحصول علي أطفال إلي هذا الحد، ومن عناء الانتظار اليائس الطويل، وكبت انفعالاتهم السلبية تجاه ما يعانونه من اجراءات طبية مهينة ومرهقة، وتكرار الفشل، وسياط الآخرين التي تلهبهم بالاسئلة بل حتي بالأدعية بأن يرزقهما الله بطفل، كل هذا غالبا ما يدفعهم نحو دائرة العصاب، بل يجعلهم حالات بينية تقف علي حافة الذهان، وعندما يجيء الطفل المستحيل، فعلا، تشكل الانفعالات المفرطة والأعباء التي مضي زمنها نوعا من الضغوط النفسية والجسدية تمثل الحركة الصغيرة المطلوبة لدفع الحالة البينية عن الحافة والسقوط في وادي الذهان السحيق، ولدينا هنا ضلالات اعتقاد واضحة وهلوسة بصرية ساطعة كعين الشمس مع أعراض اكتئابية مصاحبة ، لهذا نشخص الحالة ونحن مرتاحون فصاما وجدانيا اكتئابي النوع وسنشتغل علي ذلك بجرعات متوسطة من المطمئنات الكبري مع مضاد للاكتئاب بجرعات متوسطة ايضا والتنبؤ العلاجي جيد بنسبة شفاء عالية خلال ثلاثة أشهر.
هراء..
كان يري يومها نفسه متألقا وكان جمهور حدوة الحصان يراه كذلك، لكنه الآن وهو يتأمل حطام الكهلين اللائذين ببعضهما أمامه، متداخلين علي سرير المستشفيات الضيق كغريق يتشبث بغريق، وبعد أن جمع شيئا من تفاصيل مافاته صار يري أنه لم يقدم يومها سوي هراء، فاتته بديهيات كانت تكفي لجعله لا يشعر بكل هذا الخزي المهني، لم يعر اهتماما لدموع الرجل وزوجته التي كانت تسيل علي وجهيهما طوال الوقت، لم يفترض للحظة أن تكون للمرأة معاناتها هي الأخري، ولم يفكر أن يسألها عن عيني الطفل اللتين تضيئان، بل لم يخطر له أبدا أن يتقصي بنفسه أو بواسطة أحد نوابه هذه المسألة.
لم يفكر إلا في ملء خانات الملف الحرفي الموجود في ذهنه، وهاهو هذا الملف يكشف عن تهافته أمام احتمال استثنائي لوجود طفل بشري تضيء عيناه في الظلمة، بل يكشف عن تهافت مراجع وخبرات أعوام عمله الثلاثين.
تململ الكهل النائم محركا ذراعه العظمية فأحاط بالكتفين العظميين لزوجته الغارقة في النوم إلي جواره، وامتدت ذراعها متجاوبة لتلتف حول ضلوعه، تآزر لا شعوري لا يتذكر أنه قرأ عنه في أي من مراجعه الضخمة أو فكر فيه من قبل، حطام يتقوي حتي في غيابة النوم بحطام يألفه، صورة تفطر لها قلبه وكاثفت من شعوره بالذنب، فنهض متهالكا لينصرف، وأدهشته بنفسجية أول المساء تطل من زجاج نافذة الحجرة.
لم يخرجا من حجرتيهما في الأيام الثمانية الأولي، لكنهما أدهشاه بأنهما كانا ينامان في النهار ويستيقظان طوال الليل حتي طلوع الفجر، وأمر هو طاقم التمريض بألا يطبق عليهما النظام المعتاد في القسم، بل يتركان وشأنهما فيما يتعلق بالنوم والصحو ويقدم لهما الطعام والدواء في فترة استيقاظهما، في أثناء ذلك كان يعودهما ويقضي فترات طويلة في محادثتهما، لا بالطريقة التي اعتاد بها تقصي حالات المرضي طوال ثلاثين سنة، كمحقق وممثل اتهام ودفاع وقاض وسلطة تنفيذ معا، بل كحائر ودود يتمني لو يعرف الحقيقة لعله يستطيع أن يقدم لهما عونا وكان يحكي لهما عن نفسه بصدق كلما شعر بحاجة للبوح. حكي عن انقطاعه عن بيته وكيف أن هذا الانقطاع لم يحرك زوجته وأبناءه للقلق عليه ولا تغيير نمط حياتهم اللاهي ليمروا عليه ولو لخمس دقائق يرونه ويراهم، أبدا، لا أكثر من اتصالات تليفونية موجزة فيها من الطلبات أكثر مما فيها من الرغبة في الاطمئنان عليه، واسياه بإخلاص وضعف، وحكيا له بالضعف والإخلاص ذاتهما عما ود لو يعرفه، ولم يعد في اليومين الأخيرين في حاجة لأن يستخرج منهما الإجابات إذ لم تعد هناك اسئلة، لم يتبق غير مونولوج طويل راح يشاركهما في الانفعال به.
ولم لا، ظل يردد ذلك في داخله وهو يراقبهما ليلة بعد ليلة يخرجان في الظلمة ويهيمان في الحديقة الملحقة بالقسم الذي يشغل الطابق الأول من المستشفي الكبير، في البدء كان يراقبهما، ثم صار يتابعهما، وانتهي به الأمر إلي أن يهيم معهما بفكره وهو يشاهدهما من الفراندة المفتوحة علي الحديقة حيث لا يكون معهما احد غيره تحت قبة الليل الفسيحة، ولم لا، كان يفكر باسترجاع في الزوجين البسيطين اللذين ارتبطا بأكثر دوافع الحياة تلقائية، ومن ثم كان أعز ما ينتظرانه من زواجهما أن يرزقا بطفل، لكن الطفل يتأخر عاما، عامين، خمسة، عشرة أعوام ولا يجيء برغم التحاليل والفحوص والأدوية والعمليات وإنفاق كل ما يمتلكانه باستثناء مرتبيهما كموظفين صغيرين، ثم تسللت إلي البيت الساكن أول قطة هائمة فتحولت إلي طفل بديل للأبوين المحرومين من الاطفال، وتجر القطة أخري فأخري وتنجب القطط فيضج البيت بحياة اثنتي عشرة قطة بينها ثلاثة ذكور، ويحدث للمرأة حمل غير منتظر بعد عشرين عاما من اليأس، لكنها تجهض ويعزي الإجهاض إلي ميكروب تنقله الحيوانات فتطرد القطط جميعا في نوبة غضب وحسرة خارج البيت، يعود بيتا فارغا أشد وحشة بلا أطفال ولا قطط، لكنهما لا يجرؤان علي إعادة القطط برغم الافتقاد الشديد لها، وفي ثاني أعوام هذا الافتقاد وهذه الوحشة يحدث الحمل الثاني، ويجيء الطفل المستحيل لأم في الخامسة والاربعين وأب في الرابعة والخمسين فتوشك أن تميتهما الفرحة، لكنهما بعد أيام قليلة يبدآن في ملاحظة أن عيني الطفل تومضان في الظلمة بضوء أخضر فسفوري، تماما كعيون القطط، وكالقطط كان ينام النهار ويستيقظ في الليل، بينما جافاهما النوم في الليل وفي النهار، راحا ينهاران بين حب الطفل والخوف منه والخوف عليه، ويتماسكان ليعتنيا به ويخبئان سره عن الناس فينهاران في داخليهما أكثر، وفي دوامة هذا الانهيار يهذي الرجل باتهام زوجته في قط، فتكون القاصمة التي تلجئهما إليه، لكنه بخمسة اسئلة لاغير وفي خمس دقائق لا تزيد أحبط اعمق مبررات لجوئهما إليه هراء، مجرد هراء. لم لا، واصل يقينه في اللا معقول تحت سماء الليل وهو يري الزوجين يهيمان بقربه، أراحهما البوح كثيرا فاستعادا الكثير من عافيتيهما اللتين انهارتا بعد الموت الذي اختطف منهما الطفل في شهره الثالث، كانت انفاسه ووجهه الوديع النائم في النهار حصاة تسند تداعيهما المؤجل، وجاء موته الباكر ليجعلهما يتداعيان في جمدة كتمثالين من الشمع، ولولا أن اكتشف جيرانهما غيابهما الذي امتد خمسة ايام كاملة لقضيا من العطش والجوع وهما في هذه الجمدة، كانا في حاجة لمن يصدق ألمهما الخارق لكي يواصلا ما تبقي لهما من حياة، وكان هو من صدق ذلك وإن متأخرا، لم يخرجهما من الجمدة بنوبات التشنج التي تحدثها الصدمات الكهربائية، ولم يستعمل معهما مضادات الذهان الساحقة، فقط صدق ألمهما، ولم لا، لم لا تكون السنوات العشر الطويلة مع القطط كأطفال بدائل قد صبغت نفس الأم المحرومة من الاطفال بطابعها، وعندما حملت انصاع الجسد لخبيئة النفس التي لم ترتو اشواقها إلا ببنوة القطط، جاء المولود بعيون في شبكتيها مزيد من الخلايا العصوية الحساسة للضوء وخلايا التابيتوم التي تركز النور وتعكسه وهجا فسفوريا كما عيون القطط في الليل، يالهذا الليل.
صارت مناوبات الليل لديه اشواقا لا حدود لها، تتجاوز بيته الذي جافاه، ومهنته التي لم يعد خاضعا لمسلماتها، اشواق تطوف بالمخلوقين الهائمين في ظلمة الحديقة بحثا عن وهج فسفوري مفقود، تتطلع عاليا عاليا إلي بريق النجوم النائية التي يعرف أن ارتعاشها علي شبكية عينيه إنما هو ذكريات بعيدة، ذكريات أضواء ارتحلت عن مراياها الكونية منذ ألف، أو ألف ألف عام، وبات موقنا أن من يعرف كيف ينظر في عمق عمق عينيه هو، لابد سيبصر ذلك الوميض.