رؤية شريف الشافعي في رواية نقرات الظباء لميرال الطحاوي

ميرال الطحاوي ترصد حياة البداوة، وتكشف أزمة الإنسان المعاصر

جريدة الرياض - 13 يونيو 2002

شريف الشافعي

تتناول الكاتبة الروائية المصرية "ميرال الطحاوي" في روايتها الجديدة "نقرات الظباء" التي صدرت في القاهرة عن "دار شرقيات" عالم البدو من جديد، حيث تحاول اكتشاف عالم القبائل العربية التي سكنت مصر منذ قرون، وعلى فترات مختلفة، وعاشت على أطراف الصحراء متحولة من قيم الثقافة البدوية إلى الطبقة الاقطاعية التي صار لها اقطاعات واسعة من الأرض المزروعة، ثم بعد قيام ثورة 23يوليو سنة 1952م تدهورت اقتصادياً بعد أن فقدت معظم امتيازاتها. وتراقب الكاتبة "ميرال الطحاوي" عبر ثلاث من الشقيقات تحف بهن مصائر مختلفة حركة الحياة داخل بيوت العربان راصدة بشكل أنثروبولوجي تفاصيل هذه الحياة، حيث تحتل شخصية الأب في الرواية قدراً كبيراً من المأساوية إذ يحاول البدوي الذي فقد كل مقومات بداوته استرداد عالمه الذي تسرب من يده في محاولات يائسة، مرة عبر تربية الخيول باحثاً عن نقاء السلالة الذي صار أمراً صعباً وغير متوفر ولا مطلوب بعد أن غدت فكرة اختلاط الأنساب أمراً حتمياً، تقف المهرة التي ينجح في استيلادها وحيدة في المرابط الخالية، غير قادرة على الاخصاب الذي اقتناها من أجله. في "نقرات الظباء" ترى صيد الطيور الجارحة كإحدى أبرز الهوايات البدوية، فالأب الذي يقلع عن تربية الخيول ليلاحق الصقور الحرة متحدثاً عن أنها حرة لأنها لا تأكل من بقايا فريسة ولا تمد منقارها إلا على حي تذبحه بسن منقارها الحاد، ثم تأخذ أول نسرة منه تاركة لمن بعدها بقايا الفريسة تلك الطيرة الحرة التي كانت عصية التدجين والتي كانت رمزاً للبداوة والحرية المطلقة وعزة النفس تتحول في النهاية إلى مجرد طيور معقولة في خيوط ومقنعة بالكمامات التي لا تسمح لها بالرؤيةومضطرة تحت وقع الجوع أن تنفذ ما يطلبه منها مدربها، والأب جالس بجانبها يرثي حاله ويتحدث عن أنواعها تاركاً على باب بيته لافتة "خبير صقور " . في "نقرات الظباء" تتداخل خيوط الحكي من الجد الباشا شيخ العرب الذي صار اقطاعياً ينتمي بحكم منصبه إلى الطبقة الارستقراطية، وبناته الثلاث وهن عائدات من مدارسهن الداخلية وهن على أعتاب المراهقة، ويحكم عليهن بأن ينفصلن عما هو حضري وينخرطن في تقاليد القبيلة، مرغمات على الزواج من أبناء العم محاطات بسياج من السرية والعزلة، نراقب تلك الأسرة التي يتدهور بها الحال بعد ثورة 23من يوليو سنة 1952وتأميم اقطاع البدوان، وما يمر بها من تحولات بزواج الابنة الكبرى "هند" بابن عمها ثم جنونها واضطرار الأخت التالية "سهلة" للقيام بدور الزوجة الجديدة والأم المفترضة لابنة أختها، تنسج الكاتبة "ميرال الطحاوي" "من دراما العلاقات النسبية المتشابكة عالماً من المحبة والجنون والخوف والاضطرار القسري للقيام بالأدوار الصعبة في الحياة. والابنة الصغيرة التي نبحث عن هويتها الحقيقية وعن أمها متحيرة في تلك العلاقة التي تربط الأب بالأم المفترضة، تكشف في ثنايا بحثها الذي تعبر عنه بصوت مختف، وكأنها تمسك زمام السرد بحياد ومسافة تسمح لها بالتنكر وراء الراوي والاختفاء أيضاً خلف أصوات ساردة أخرى، تلك البطلة التي تذهب إلى المدرسة محمولة على أكتاف عبدة سوداء، وتواجه المعاملة الأشد قسوة من مجتمع لم يعد يعترف بالنسب القبلي ولا بسطوة أجداد صاروا ذكرى بعيدة، البنت التي تناديها العجائز بأنها "بنت شيخ العرب" هي البنت نفسها التي تراقب الأب والعمة ينخرطان في مشروعات تثبت فشلها واحداً بعد آخر في محاولات يائسة لاستعادة أمجاد القبيلة كان آخرها محاولة إرسال العرائض إلى السفارة السعودية مطالبين بعودة القبيلة إلى مرابعها الحجازية القديمة بعد أن ضاق بها العيش في أرض مصر وصارت تخشى من الذوبان، تلك العرائض التي تثير السخرية والتندر تكشف بأسى عالماً من البشر خارج التاريخ السياسي والاجتماعي يعيش أمجاده السالفة. تكشف "نقرات الظباء" أزمة تلك الجماعة الإنسانية التي تتبنى قيماً صارت لا تعني شيئاً وسط كل التغيرات، فالخيل تحول من رمز للسلالة النقية إلى مجرد كائنات هجينية بين الشرق والغرب، والطيور الحرة لم تعد سوى طيور بائسة موتودة على قصبان الملح الذين يحرصون على اقتنائها والتنظيم لديهم ليس إلا بعض صور على جدران قديمة لأجداد يتحدثون عنهم بفخر وتخطيط قديم لأرض كانت تسمى اقطاع البدوان تحولت إلى مدينة غاصة بالغرباء مليئة بالبرامواه والشوام والغرابوة وغيرهم من الذين بنوا البيوت الخرسانية ونسوا أسماء الكفور والنجوع التي كانت لهؤلاء العرب، تظل الأسماء بلا دلالة لديهم. رواية ميرال الطحاوي الجديدة هي وثيقة اجتماعية تاريخية لحالة شديدة الرمزية في المجتمع المصري، تلك الجماعات التي سكنت الأرض ولم تزرعها، وتفتت انتماءاتها بين تلك الأرض وهذه الثقافة الجديدة وما كان لهم من انتماءات قبلية قديمة بحكم تغير الوضع الاقتصادي والاجتماعي. الكاتبة ميرال الطحاوي نجحت في اللعب على مفردات رمزية كثيرة في تجسيد عالمها، كما أن الرواية تبدو كجزء من مشروع كبير يتبنى هذا العالم الذي تبوح فيه وكأن الرواية تبدو جزءاً من منظمة كبيرة في لوحة تعكف عليها ميرال بتؤدة تبوح ببعضها في هذه الرواية وتدخر عبر الإحالات والإشارات ما تود العودة إليه، الرواية التي تتداخل فيها علاقات المحبة واليأس والجنون والوحدة، تعيد إلى الذاكرة روايتها الأولى (الخباء) وبطلتها "فاطم" التي تكافح بساق مكسورة للخروج من البيت المغلق، فبطلة "نقرات الظباء" "هند" هي وجه جديد تغلق عليه أبواب سوء الفهم وقسوة التقاليد وتنتهي أيضاً في بيت بلا نوافذ ولا أبواب مجرد حوائط مغلقة يدلون لها سلال الطعام من السقف حيث لا ترى في وحدتها سوى نجمة في هيئة ظبية هاربة من فخاخ الصياد. هند واحدة من ثلاث بطلات كلهن نتاج عالم قمعي شديد التوتر ملئ بالعبيد والتجار والمحاولات اليائسة لاستعادة أمجاد القبيلة التي تقاوم فناءها بالأشعار والمجاريد. تحتفي "نقرات الظباء" بالشعر البدوي "المجاريد" والأغاني والشعر العربي وتساهم الأبيات في بلورة شخصية الأب الذي يتغنى بالشواهد الشعرية خالقاً حواره مع الوجود وقسوة الظروف برثاء نفسه أحياناً والتغني بأمجاد قبيلته أحياناً أخرى. يتسق الاحتفاء بما هو شعري مع عالم "ميرال الطحاوي" فالفولكور البدوي يحتفي أساساً بما تراه في أغانيه، كما تنقل هذه الشواهد قدراً من المصداقية الشفاهية وتجعل الغناء مصدراً من المصادر الأصيلة. وتؤكد "نقراء الظباء" اختيار ميرال الطحاوي للغة الشعرية أساساً في السرد، وكان الشاعر محمود درويش قد أبدى إعجابه بأعمالها، وقال الشاعر العربي "أدونيس" إن روايات ميرال الطحاوي من حيث التركيز واللغة أقرب إلى الشعرية، ورأى كثير من النقاد أن نصها يقارب في جمالياته دفق الإيقاع الشعري. وتعتبر "ميرال الطحاوي" أن دراستها للأدب العربي وثقافتها التراثية وولعها بالشعر القديم هو الذي يدفعها إلى خلق المحاولات لمزج ما هو شعري بما هو سردي، محاولة أن نحافظ على إمكانيات النص التراثي، وتعتبر أن الحالة الشعرية هي الخطر الحقيقي على أي منتج سردي وأن على الروائي أن يوازن في نصه بين الحكي والعالم المسرود والولع بالإيقاع الشعري. وعلى الرغم من أن النص يبدو في حقيقته معتمداً على فترات تاريخية بعيدة ومتفاوتة تحتاج إلى إحالات مرجعية تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية كثيرة فإنه لا يفصح عن هذا الاعتماد على المراجع بل يبدو في كثافته التعبيرية وإحالاته الرمزية هاضماً لكل المراجع خصوصاً ما هو فرعوني، حيث تبرز الكاتبة علاقة البدو بالحضارة الفرعونية في إسكانهم الدائم ومع تلك الثقافة المصرية القديمة، لا يعد الاعتماد على ما هو تاريخي اجتماعي في الرواية مربكاً للنص الذي ظل معتنياً بخلق شخوصه الأكثر تألقاً، البعض منها يبدو محورياً كشخصية الأب و"هند" و"سهلة" الأختين اللتين يتزوجان واحدة بعد موت الأخرى والابنة التي لا تعرف إلى أي أم فيهما تنتمي من خلف ذلك يأتي الجد "منازع" والجدة والخادمات والعبيد والرحالة الأجنبي وكثير من الشخصيات التي تبدو خالقة للعالم ودالة في تكوينه، والتي تمثل كائنات جديدة تنتمي إلى عالم ميرال الطحاوي ولكنها لا تعد استدراكاً أو تكراراً لهؤلاء الأبطال السابقين في روايتها "الخباء" 1996أو "الباذنجانة الزرقاء" 1998.والعنوان "نقرات الظباء" رغم غرابته فهو يصبح جزءاً من التشكيل الرمزي الذي تلجأ إليه الكاتبة، فالرواية تتكرر فيها صورة الظبية الهاربة من صيادها والتي تترك لصغارها آثارها على التراب نقرات أو آثاراً دالة على مكان وجودها، الرواية التي تبرز رحلة تدريب الطيور الجارحة على قنص الغزلان كهواية عربية ولع بها شيوخ العرب تتداخل مع صورة الأم "هند" التي تموت تاركة ابنتها "مهرة" تحاول الوصول إلى فك شفرات موت أمها المأساوي، كما أن الرواية تبدو في المجمل قصاً لأثر العابرين على أرض البدوان فأبو شريك العبادي الذي كان دليلاً للقوافل المكية مع هذا الجد أو ذاك صار لا يعرف كيف يسير في النجوع والكفور بعد أن تغيرت معالمها ولم تعد تعرف أصحابها، وهو معنى يجنح إلى الأسطورية أيضاً فنقرات الظباء تصبح في إحدى الدلالات داخل الرواية نجمة تنذر بموت "بيير" الرسام الأجنبي الذي تقع في حبه الأختان. إن "نقرات الظباء" امتداد لمشروع ميرال الطحاوي الإبداعي الذي بدأته في "الخباء" والذي حاولت فيه النحت في منطقة خاصة ومختلفة والعمل على إثرائه بالمعرفة إذ تبدو الرواية الأخيرة أكثر إفصاحاً عن هذا العالم وأكثر اتجاهاً للإلمام به لا بالمرأة داخله فقط، فالرجل الذي تمثله صورة الأب والجد يبدو أكثر حيوية وحضوراً كشخصية روائية وإن ظل عالم النساء بأسرارهن أيضاً مهيمناً وقوياً وهو استكمالاً لولع الكاتبة بالتفاصيل الصغيرة التي تنتج في النهاية نسيجاً لعالم فسيح ومتعدد المستويات فهو غاص بالبشر والحكايات والرموز والإيحاءات. فمنذ العنوان تطل لفظة "الظباء" باعتبارها دلالة صحراوية، لكنها تتحدد في مستويات إحالاتها من العزالة إلى النجمة إلى البطلة، وكما في روايتها الأولى "الخباء" تختلط معالم الشخصيات مع الحيوانات الصحراوية فيما يثبته تناسخ الأرواح، فالابنة "مهرة" التي هي بقايا السلالة النجدية تقف وحيدة وارثة أطلال بيت قديم مثل المهرة الحقيقية الواقفة في مربط خلل، كما أن "هند" تتجلى في روح قطة تموء كضمير معذب تذكر بما وقع عليها من جرم. كما تختلط الكائنات وتتوالد في النص بضمائر مختلفة لا فرق بين مأساة الطائر الحر الموتود في قصبان الملح والأب المضطر أن يجلس في الخيمة قانعاً بالحديث عن أمجاد قبيلته التي لم يعد يهتم بها أحد، تختلط كذلك في النص الواقع والمتخيل، فالكتابة لا تعمد إلى التاريخ بل إلى نسيج شبه أسطوري، يجعل التاريخ غلالة شفيفة لعالم قد يكون محتملاً، فالرواية هي التي تخترع مكانها "تلال اللقيا"، "اقطاع البدوان" معتمدة على جغرافيا حقيقية لكنها غير معلومة كواقع، وحجم الواقع في الرواية هو قدرة الكاتبة أن تجعلنا نصدق أن هذا العالم هو خلقها الحقيقي وليس صنع يديها، هذا الإيهام بالواقع هو الذي يجعل النص منفلتاً من الرواية التاريخية وجعل الواقع معادلاً لأساطير شفاهية كبيرة في تراثنا لكن الجهد المبذول في نقص رحلة القنص وتدريب الطيور الحرة، والمعرفة بتربية الخيول وتفاصيل البيئة هو جهد أنثروبولوجي نجحت الكاتبة في دمجه داخل البناء. ويجدر بالذكر أن الكاتبة قد أنتجت منذ عام 1996ثلاث روايات فازت الأولى "الخباء" بجائزة أفضل كتاب أو عمل روائي في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2002ونالت تكريماً من رئيس الجمهورية في لقائه بالكُتَّاب المصريين، صاحب صدوره قدر كبير من الاستحسان في الوسط الثقافي وكان المثقفون قد اختاروا "الخباء" كأفضل رواية صدرت عام 1996عقب صدورها، ورشحت الرواية لجائزة مكتبة دبلن الايرلندية وهي من أكبر الجوائز العالمية، وترجمت "الخباء" إلى ست لغات ودرست في كثير من الجامعات العربية والمصرية، كما نالت الباحثة البلجيكية "تين هيلتين" درجة الدكتوراه عن دراستها لهذه الرواية. "الخباء" صدرت في طبعتها الأولى بالقاهرة عن دار شرقيات ثم أُعيد طبعها في دار الآداب البيروتية عام 1998وصدرت في طبعتها الثالثة من مكتبة الأسرة عام 2001في القاهرة. الرواية الثانية لميرال الطحاوي كانت "الباذنجانة الزرقاء" وقد صدرت أيضاً عن دار شرقيات عام 1998ثم دار الآداب عام 2000وفازت عام 2000بجائزة الدولة التشجيعية وترجمت إلى الانجليزية والايطالية والألمانية. "نقرات الظباء" صدرت أيضاً في الوقت نفسه من القاهرة "دار شرقيات" وبيروت "دار الآداب" وتأتي في الحجم نفسه الذي كتبت به "ميرال الطحاوي" روايتيها السابقتين فهي في 120صفحة من القطع المتوسط، ومع ذلك تبدو شديدة التكثيف ومليئة بالتفاصيل والرموز مما يجعل النص يشبه في تركيزه أسطورة رامزة للمكان والزمان بشكل يوازي الحقيقي ولا يماثله. كما أن "نقرات الظباء" تبدو هي الشكل الأكثر دلالة على مشروع الطحاوي الإبداعي وتعتبر نقلة على مستوى التقنية والاحتراف مما يعزز اسمها ككاتبة روائية تمتلك مفردات خاصة. وقد نوقشت "نقرات الظباء" فور صدورها في ندوة بمعرض القاهرة للكتاب شارك فيها مبدعون ونقاد من بينهم إبراهيم فتحي وإدوار الخراط.. وآخرون