في رحاب مولانا

عن البيان- 11 اكتوبر 2001

أقدم ما ينتمي الى ذاكرتي، بصرية، أو سمعية، أو شمية، أو صور مبهمة تستعصي على التفسير يرتبط بأبي وأمي، أبي الكادح، الذي جاء من قريتنا في الصعيد، جهينة التي ولدت بها الى القاهرة بحثا عن الرزق بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت في الصعيد.

لم تتح له فرصة إتمام تعليمه في الأزهر كما تمنى واستهدف في بداية سعيه، إلا أن يتمه المبكر، وفقدانه الأب وهو ابن عامين، والأم وهو ابن ستة أعوام، أدى الى مواجهته الحياة وحيدا، فردا، طمع أقاربه في قطعة أرض تتجاوز الفدان ونصف، وتلك مساحة كبيرة بمقاييس الوقت في عشرينيات القرن الماضي، وكان تمسكه بها أحد أسباب هجاجه الى القاهرة، الى مصر كما يسميها أهالي الصعيد والوجه البحري وعندما نزلها اتجه الى سيدنا الحسين، حفيد الرسول الكريم، الذي قتل من أجل الحقيقة في كربلاء، وأصبح سيدا للشهداء عند المسلمين كافة، مبجلا عند المصريين الذين عبدوا الإله أوزير، الذي استشهد في صراعه مع شقيقه إله الشرست، وتناثرت أجزاء جسده الى اثنين وأربعين موضعا، بعدد مقاطعات مصر القديمة وسعت زوجته الوفية إيزيس تلملم اشلاءه، منه أنجبت ابنهما حورس الذي ينتسب اليه ملوك مصر القديمة. فكرة الاستشهاد من أجل الانسانية، من أجل فكرة عادلة، مضمون روحي أساسي في مصر، لذلك تقبلت مصر المسيحية واعتنقتها ومنحتها مضمونها الروحي، هكذا نشأت الكنيسة القبطية، وعندما اعتنقت مصر الاسلام، أحب المسلمون آل البيت، خاصة سيدنا الحسين، رغم أنهم ليسوا شيعة. لا يوجد فرد من آل البيت إلا وله ضريح في مصر، سواء كان حقيقيا، يضم رفات صاحبه، أو رمزيا، الى سيدنا الحسين يتجه المصريون، واليه اتجه أبي، فبجوار ضريحه يشعر الغريب بالأمن، ويجد الضعيف ملاذا وعونا، وقد ورثت عن أبي تعلقه بالحسين وآل البيت، فتحت عيني على الدنيا في منزل صغير متواضع فوق سطح بيت مرتفع، منه كنت أرى مئذنة المسجد السامقة.

فجر كل يوم، يستيقظ الوالد، في ليالي الشتاء قارسة البرد، أو في الصيف الحار، لا فرق، من مرقدي الدافئ أصغي الى خطواته، الى خرير الماء إذ يبدأ الوضوء، لم يحل بينه وبين أداء الصلاة في مسجد الحسين الذي كان يقع على مسيرة خمس دقائق طوال عمره إلا المرض الشديد، قبل الخامسة كنت أطلب صحبته.. فيقول: صل في البيت.. وعندما تكبر أصحبك الى صلاة الفجر..

يعود من صلاة الفجر، حاملا افطارنا، طبق الفول الشهي من بائع شهير اسمه أبوحجر، كان يقف قرب الباب الرئيسي للمسجد، يخرج المصلون ليشتروا منه الفول، ومن المالكي اللبن الحليب الدسم، ومن السني الخبز الساخن الجميل، نستيقظ، وبعد أن نغتسل، نتحلق حول المائدة، ربما أول ما تلقيته من تعليمات: قل بسم الله الرحمن الرحيم أولا.. قبل كل شئ..

النطق باسم الله يبعد الشيطان، ويقصي الشر، ويطرح البركة في الطعام، والرزق، قبل أي اتفاق، قبل أي رحيل قصير أو طويل، قبل الشروع من الأفضل دائما ذكر اسم الله، قبل دخول الغرف المظلمة يكفي التلفظ باسم الله لنطرد العفاريت والأرواح الشريرة، يقول الوالد، أو الوالدة - رحمهما الله كل من أمامك.. ولا تخف..

أي يجب أن تراعي من يأكل معنا، ذلك أننا كنا نأكل من ماعون واحد، عرفت طريقي الى ضريح ومسجد سيدنا الحسين مع الوالد مرتين في العام، الأولى في العيد الصغير الذي نفطر فيه بعد صيام شهر رمضان، والثاني العيد الأكبر، عيد الأضحى، كنت أنام مبكرا محتضنا ملابسي متطلعا الى الصباح الباكر حيث أصحب أبي لصلاة العيد، بالتحديد في مسجد الحسين، يفيض هذا المكان بالضوء والسكينة والسجاد الأحمر الياقوتي الذي يفرش أرضه، والأخضر الخصب الذي يصبغ غطاء الضريح، ولون الرخام الأبيض المشرب بحمرة، وألوان الخطوط التي تكون الآيات القرآنية المعلقة على الجدران، اضافة الى زرقة السماء القاهرية، إنها الألوان الأساسية في ذاكرتي، بمخيلتي الاولى تصورت الحسين شابا، جميلا، يتطلع الى الأمام، بشر لكن في وضع تمثال منحوت باتقان وعلى وجهه تعبير فيه حزن، وفيه أسى، وصفاء أيضا، ربما كان ذلك التصور بتأثير رسم شعبي يباع على أرصفة المساجد حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، صورة رسمها فنان شعبي مجهول لسيدنا علي بن أبي طالب يجلس متوسطا نجليه الحسين عن يساره والحسن عن يمينه، وصورة أخرى لسيدنا ابراهيم عليه السلام يمسك سكينا ويستعد لذبح ابنه اسماعيل امتثالا للرؤية، وأعلى الركن الأيمن الملاك سيدنا جبريل نازلا من السماء وبيده خروف فداء لاسماعيل، أذكر صورا أخرى لأبينا آدم وأمنا حواء، وصورة لسيدي أحمد البدوي وسيدي عبدالقادر الجيلاني أحد أقطاب الصوفية وصورة للبراق الذي أسري به الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام الى السماء، حصان مجنح، له رأس انسان جميل الصورة، أنثوي الحضور، وصورة للمحمل عند خروجه من مصر قاصدا مكة يحمل كسوة الكعبة، وهدايا مصر الى أهل الحجاز وفقراء الحجاج، استمر وجود هذه اللوحات حتى نهاية الستينيات، واختفت تماما في السعبنيات مع بدء ظهور تيارات التطرف الديني، وعندما زرت تونس في عام خمسة وثمانين وجدت هذه اللوحات تباع على رصيف جامع الزيتونة، ولا أدري اذا كانت موجودة حتى الآن أم اختفت أيضا، وعندما رأيتها تذكرت وقفة أبي أمام تلك اللوحات وشرحه لما نرى، كان في أوقات فراغه وراحته يحكي لنا عن الأنبياء، طوفان نوح، وسيدنا ابراهيم وعن ابنه اسماعيل الذي أطلق اسمه على أخي، وكنت أساله في صغري، لماذا لم يطلق علي اسم أحد الأنبياء كما اطلق على أخي، فكان يداعبني قائلا: ألا تسمع الناس تقول.. يا جمال النبي..

والحقيقة أنه كان معجبا بسيرة السيد جمال الدين الأفغاني المفكر الاسلامي الثوري الذي جاء الى مصر في القرن التاسع عشر ومات في الأستانة مسموما، وأطلق اسمه عليّ. كان يحفظ سورة أهل الكهف عن ظهر قلب ويحكيها لنا في صيغ مختلفة وكذلك سورة سيدنا يوسف ولقاء سيدنا موسى بحبر أوتي العلم اللدني ويعتقد المفسرون أنه سيدنا الخضر الذي شرب من عين الحياة فهو لا يموت أبدا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، كان يحكي لنا عن مشاهد القيامة كما وردت في القرآن الكريم، وكنت أسأله عن يوم الحشر، وهل سنتفرق فيه عن بعضنا فيقول لي: يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.. سورة عبس.

وأبكي حزنا لأنني لن أتعرف على أمي وأبي وأخوتي، ولأننا سنفترق، كان الموت يلوح قصيا، نائيا، ولم أكن أدري أنه أقرب الينا من حبل الوريد، في يوم العيد، نرجع الى البيت بعد اكتمال البهجة برؤية موكب الزعيم جمال عبدالناصر الذي كان يحرص على رؤية الناس من عربة مكشوفة، وبعد افطارنا يحمل الوالد حقيبة من ورق، فيها كعك وفواكه وما تيسر، لتوزيعها على أرواح الموتى، أولا شقيقي خلف وكمال اللذان رحلا صغيرين قبلي، وثانيا على أرواح من يحب، وزيارة الموتى وتوزيع الهدايا من أجلهم عادة مصرية فرعونية قديمة، وتمتزج زيارات الموتى بالمناسبات الدينية، العيدين، ونصف شعبان، والسابع والعشرين من رجب، وقد دارت الأيام دورتها، وصرت أسعى الى مرقد الوالدين رحمهما الله تماما كما كان يفعل والدي، أمام ضريح الحسين ومرقده، فهو المكان الوحيد في العالم الذي يصالحني على نفسي حتى الآن، اليه أسعى عند الضيق.

كان الوالد يحفظ آيات كريمة من القرآن الكريم، يتلوها بمفردها، وأستعيدها الآن فتبدوا لي كمواد قانون كوني ينظم حياته، أحيانا ينطقها أثناء صحته وأحيانا يتلوها ليدلل بها على صحة موقف أو قول، كانت تعاليم الدين جزءا من الحياة من السلوك الانساني، ليست بمعزل.

إنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.. سورة المائدة ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.. سورة الأنعام.

لقد مّر والدي بظروف عسيرة جدا في حياته، خاصة في كفاحه البطولي من أجل تعليمنا، من أجل أن يجنبنا الصعاب التي رآها في حياته، وكثيرا ما ردد على مسمعي.. والله لولا خوفي من الموت كافرا لانتحرت..

أن يقتل المسلم نفسه، أو يقتل انسانا آخر، فهذا كفر بعينه، حرم الله في القرآن الكريم تحريما صريحا قتل النفس الحية بدون ذنب.. كما حرم وأد البنات الذي كان منتشرا في الجاهلية قبل الاسلام.

كان الوالد يذكر الله كثيرا. بعد تناولنا الطعام لابد أن نقول الحمد لله إذا سافر أحدنا يقول له ربنا معاك، إذا خرج لقضاء حاجة يطلب من أمي أن تدعو له فتقول ربنا يسهل لك.. أحيانا أثناء صمته يصيح يارب سترك ورضاك...

أو..

يا غفور يا كريم يا رب.

عندما بلغت السابعة بدأ يتابع أدائي الصلاة، ويؤمنا ليصلي بنا جماعة، أمي وشقيقي اسماعيل وشقيقي علي وشقيقتي نوال، وعندما بلغت التاسعة بدأت أصوم رمضان، وكان ذلك علامة على خطوي نحو طور الرجال، كنت أغالب العطش والجوع، ويكتمل شملنا حول الطعام بعد آذان المغرب، وحتى بعد تقدمي في العمر مررت بظروف أمرني فيها الطبيب أن أفطر في رمضان بسبب أدوية سيولة الدم، لا يمكنني أبدا تناول الطعام وقت الغذاء، أنتظر آذان المغرب، وخلال النهار أتناول الدواء وبعض ماء وعندي احساس بالذنب، لم يكن ضريح ومسجد مولانا الحسين مكانا للصلاة فقط، إنما كان ملاذا أيضا وملتقى، فيه يتساوى الناس.. فالثري الى جوار الفقير، الناس سواسية كأسنان المشط طبقا لما يأمر به الاسلام، ولكم قضى والدي من حاجات عبر جيرانه في الصلاة الذين كان بعضهم في مناصب مرموقة بالحكومة، أو أطباء مشهورين، كلهم يجيئون الى الحسين، التماسا للبركة، وتعلقا بالرمز، وهذا ما يميز الاسلام في مصر، فثمة أقطار اسلامية تسود فيها مذاهب تحرم التحلق بالأضرحة، أو زيارة الراحلين.

في مسجد الحسين، كانت تتردد أصوات مشاهير القراء، ولقد استمعت الى أجمل الأصوات، التي تجسد مدرسة تلاوة القرآن المصرية، قارئ واحد شهير لم أستمع اليه لأنه رحل عن دنيانا وعمري خمس سنوات، إنه الشيخ محمد رفعت الذي تبث الاذاعة تسجيلاته النادرة كان الوالد يستيقظ مبكرا في بعض أيام الجمع ليستطيع حجز مكان في مسجد فاضل باشا بالجماميز الذي كان يقرأ فيه الشيخ محمد رفعت، وكان والدي إذ يصغي الى تسجيلاته كان يقول لي إن ما نسمعه مجرد شبه بعيد جدا بصوت الشيخ صاحب الصوت العميق، العذب للأسف بدأت مدرسة التلاوة المصرية تختفي من الاذاعة والتلفزيون، لكن ثمة قراء ما زالوا يتلون القرآن الكريم في الريف المصري طبقا لتقاليد المدرسة المصرية في التلاوة، كان والدي رحمه الله يحرص على مجاملة جيراننا الأقباط، في القرية أو الجمالية، وأذكر زياراته المنتظمة لتاجر غلال من بلدنا اسمه فخري غورس ومن زياراته تلك عرفت أعياد الأقباط، مثل عيد القيامة، وسبت النور، وعيد الغطاس، وفي أثناء قضاء اجازتنا بالقرية كان يصافح القس والرهبان الأقباط بمودة واحترام، ويعلمني أن أنادي كل منهم يا أبونا، كان يردد دائما: الدين لله والوطن للجميع.