سور النسيان

هل قتلته بالأمس فعلاً؟! تلتبس الصور في ذهني.. أتذكر الآن.. نعم قتلته. تقدمتُ نحوه بهدوء.. وطعنته في صدره.
كيف أقتله وهو القشة التي أتعلق بها لتنتشلني من الغرق في بحر النسيان الصامت كالموت؟
انفضوا جميعا واحدًا تلو الآخر.. وبقي هو وحده.. كان يداوم على الاتصال. انتظر مكالمته بلهفة.. خصصت لرقمه رنة خاصة ..يدق قلبي لسماعها فأشعر أنني مازلت على خريطة الحياة..
لم نلتق منذ فترة.. ما يقرب من العام؟ يعتذر دائما بانشغاله في العمل.. يقول “ما أنت عارف”.. يستدعي بقوله ذكرى أيام مضت لا يكف فيها الهاتف عن الرنين، ولا وقت فيها لزيارة الأصدقاء.
يسألني عن نشاطي وكيف أقضي أيامي.. أخفي ضجري من الفراغ خلف سياج من الكبرياء.. التهمت مشاغل العمل كل الاهتمامات وتركتني خاويًا.. عاجزًا عما دونها. يحثني على كتابة مذكرات أسجل فيها خبرتي! أعرف أنه يجاملني.. لكن كلماته تدغدغ غرورًا يتيمًا.
اتصل منذ يومين ووعد بزيارتي.. لم أطلب.. هو من بادر.. لم أظهر أبدًا لهفتي على سؤاله.. دبت الحياة في عروقي.. أعددت للقاء.. سيحدثني عن أيام خالية كنتُ فيها مركز الاهتمام ..
ها هي الصور تطفو مرة أخرى على سطح الذاكرة.. أتصبب عرقًا.. أصعد السلالم متحاملاً.. أسمع دقات قلبي أقوى من ضربات خطواتي على الدرج.. أهو المجهود الذي يفوق قدرات قلبي العجوز.. أم الخوف مما اعتزمت.. كنت قد قررت قتله..
لماذا أقتله؟.. هو من دفعني لذلك..
كم عانيت مهانة انتظار رنين جسم أخرس.. تباعدت مكالماته في الفترة الأخيرة.. خفت من يوم يغيب فيه.. كالباقين.. ليتركني أغرق في بحر النسيان.. أتجرع طعم مياهه المالحة ..
ها أنا أقبض بذاكرة مرتعشة على باقي المشهد لأراه دون التباس..
استدرجته إلى سطح البناية.. أغريته بالهواء المنعش…. تقدمت نحوه بثبات وطعنته في صدره بتصميم.. بخنجر.. لا.. لا، كان سيفًا صغيرًا.. ابتسم في أمان.. لا.. بسخرية؟ تراجع حتى اصطدم فخذه بسور السطح.. اختل توازنه.. سقط؟؟ لا.. عاد فارتد نحوي.. تراجعت حتى اصطدمت بالسور المقابل.. هويت.. صاحبني شعور لذيذ بالاستسلام.
شمس ضحى الشتاء تغمر الشرفة، تغري بغفوة معتادة في مثل هذا الموعد على المقعد الوثير. ها هي رنته الخاصة تتسرب لأذني .. تصر.. أتوقعها .. سيعتذر عن عدم حضوره بالأمس حسب الموعد.. سيسرد حجج .. هل أرد؟
لا..سأقتله..سأضغط على الزر الأحمر لأََغرَق بيدي في بحر النسيان.. استمتع بشعور الخلاص من مهانة الانتظار.