قصة قصيرة بقلم علاء الأسواني

عزت أمين اسكندر

زميلي في الصف الأول الإعدادي بقامته القصيرة نوعا وجسده القوى العريض ورأسه الكبير و شعره الأسود الناعم ونظارته الطبية وابتسامته الخافتة الوديعة القريبة من التوسل ونظراته التي تكون مراوغة متشككة مفزعة أو تكون عميقة مذعنة مثقلة بالذنب والأسى ..عزت اسكندر بعكازه وساقه الصناعية ، عكازه ينتهي أسفله بقطعة مطاط تمنع الصوت والانزلاق وساقه الصناعية يغطيها ببنطلون المدرسة ويلبسها جوربا وحذاءا لتبدو كالطبيعية .. كل صباح يعرج عزت في الفصل متكئا على عكازه ، يجرجر ساقه الصناعية ويتأرجح ، خطوة خطوة حتى يصل آلي آخر تختة ..هناك.. في الركن بجوار النافذة يجلس ويلقي بعكازه على الأرض ولا يلتفت إليه مطلقا بعد ذلك ..ينهمك تماما في متابعة الدرس ، يسجل بعناية كل ما يقوله المدرس .. ينصت ويقطب جبينه متفكرا ثم يرفع يده سائلا مستوضحا ( وكأنه بانهماكه في الدرس يندس في الحشد ، يتوارى بيننا ، يصير لمدة ساعات مجرد تلميذ مجتهد بين التلاميذ .. لا يصمه عكاز ولا عرج ) ..وعندما يرن جرس الفسحة ، ما أن تصلصل رناته البهيجة حتى يهلل التلاميذ كلهم فرحا ..يلقون ما بأيديهم ويتدافعون حتى السقوط على باب الفصل نازلين إلى الفناء ..عزت اسكندر وحده يتلقى جرس الفسحة كنبا قديم متوقع يغلق كراسته وينحيها بهدوء ثم يخرج من حقيبته السندوتش والمجلة المصورة ويقضى الفسحة جالسا فى مكانه يقرا ويأكل وإذا نظر إليه أحد التلاميذ وهم بفضول وإشفاق .. عندئذ .. يبتسم عزت بوضوح وهو يقرأ ، يتظاهر بالاستمتاع التام بالقراءة كأن متعة القراءة ـ وحدها ـ هي التي منعته من النزول إلى الفناء . "

كانت أول مرة أحضر دراجتي إلى المدرسة .. كان ذلك بعد ظهر الخميس والفناء خاو إلا من بضعة تلاميذ يلعبون الكرة في الناحية الأخرى .. رحت ألعب بالدراجة : أقطع الفناء وأعود .. أدور حول الأشجار .. أتخيل نفسي في سباق للدرجات وأصيح عاليا :- " سيداتي سادتي .. والآن مع سباق الدراجات العالمي ..! " .. أرى بعين الخيال جمهورا وأعلاما ومتسابقين ينافسونني وأسمع هتافات وصفارات المشجعين ودائما أفوز بالمركز الأول ، ألمس خط النهاية قبل المنافسين وأتلقى باقات الورود وقبلات التهنئة . ظللت ألعب فترة وفجأة داخلني شعور بأنني مراقب ، التفت فرأيت عزت اسكندر جالسا على سلم المعمل كان يتفرج على من البداية ولما التقت عينانا ابتسم ولوح فتوجهت ناحيته وبدأ هو نهوضه ، استند بيده على سور السلم واحتضن عكازه ثم رفع جسده ببطء حتى وقف ونزل السلم درجة درجة ولما وصل الي أخذ يتفحص الدراجة ، أمسك بالمقود ورن الجرس عدة مرات ثم انحنى ولمس بأصابعه أسلاك العجلة الأمامية و تمتم بصوت خافت عجلة حلوة أسرعت أقول في زهو : ـ دى رالى 24 .. عجلة سباق .. فيها ثلاث سرعات .. عاد يتأمل الدراجة كأنما يختبر ما أقوله ثم سألني : ـ تعرف تسوق وأنت رافع يديك ..؟! هززت رأسي وانطلقت بالدراجة ، كنت خبيرا بالدراجات وأعجبني أن أستعرض أمامه .. بدلت بقوة حتى بلغت أقصى سرعة وشعرت بالدراجة ترتج تحتي ثم رفعت يدي بحرص عن المقود حتى حاذت ذراعاي كتفي ، ظللت هكذا فترة ثم استدرت عائدا إليه ، كان قد تقدم بضع خطوات إلى وسط الفناء .. توقفت أمامه وقلت وأنا انزل من الدراجة : ـ شفت يا سيدي ..؟! لم يرد على ، أطرق واخذ ينظر إلى الدراجة كأنما يزن في ذهنه أمرا عميقا وفجأة ضرب بعكازه الأرض وتقدم خطوة حتى التصق بالدراجة ثم قبض بيده على المقود وانحنى على وهمس : .." ادينى لفة لو سمحت " ..وأخذ يلح " لو سمحت .. لو سمحت ".. لم استوعب الأمر وأخذت أحدق فيه ، كانت النزوة قد جرفته فلم يعد بوسعه أن يتوقف أو يرجع ولما وجدني صامتا أخذ يهز المقود بعنف وصاح بغضب هذه المرة : "باقولك ادينى لفة " .. ثم قفز من مكانه محاولا الركوب فاختل توازنا وكدنا نسقط أنا وهو ، لا اذكر كيف فكرت عندئذ لكنني انسقت إليه ووجدتني أساعده على الركوب : اتكأ على كتفي وعلى العكاز وبعد محاولات مجهدة تمكن من رفع جسده عاليا وعبر بساقه السليمة إلى جانب الدراجة وجلس على المقعد ، كانت خطته أن يمد ساقه الصناعية إلى الأمام ليبعدها عن البدال وفى نفس الوقت يحرك البدال الآخر بقوة ساقه السليمة ،كان هذا صعبا للغاية لكنه في النهاية ممكن ، استقر عزت على الدراجة وبدأت أدفعه من ظهره إلي الأمام دفعا خفيفا حذرا ولما تحركت الدراجة وبدأ يبدل تركته مرة واحدة فاختل توازنه وترنح بشدة لكنه لم يلبث أن تماسك ثم استقام وبدأ يسيطر على الدراجة ..كان يبذل مجهودا خارقا لكي يبدل بقدم واحدة ويحفظ الاتزان ، مرت لحظات والدراجة تتقدم ببطء وتجاوز عزت الشجرة الكبيرة ثم كشك الكانتين ووجدتني أصفق و أصيح : " برافو يا عزت " ..أخذ يتقدم بالدراجة حتى شارف نهاية الفناء وكان لابد أن يستدير وكنت أخشى عليه من الاستدارة لكنه استدار بحرص وبراعة ولما عاد في الاتجاه المعاكس بدا واثقا ومسيطرا تماما على الدراجة حتى انه زاد السرعة ثم زادها ثانية حتى تطايرت خصلات شعره من اندفاع الهواء ..صارت الدراجة منطلقة بسرعة كبيرة وعزت يعبر بها الممر الممتد بين الأشجار وراحت صورة عزت تغيب وتظهر من خلال الأغصان وأوراق الشجر المتداخلة .. كان قد نجح ، ورأيته على الدراجة المندفعة الآن كالسهم يعود بظهره إلى الوراء ويرفع رأسه ثم يطلق صيحة طويلة عالية ترددت في جنبات الفناء .. صيحة ممطوطة غريبة مشروخة كأنها صرخة انحبست في صدره طويلا لكي تخرج في تلك اللحظة ، أخذ يصيح : شايف .. شااايييف ……

******************************* بعد قليل لما ركضت إليه ، كانت الدراجة منقلبة على الأرض والعجلة الأمامية لا زالت تدور وتئر ورأيت الساق الصناعية منفصلة عن جسده.. كانت ملقاة بعيدا بجوربها وحذائها ولونها الداكن وتجويفها المظلم كأنها قطعت لتوها من جسده أو كأنها مخلوق منفصل له حياته الداخلية المستقلة وكان عزت منكفئا على وجهه ويده على موضع بتر الساق الذي بدأ ينزف دما ويصنع بقعة تكبر على قماش البنطلون الممزق ، ناديته فرفع رأسه ببطء ..كانت هناك جروح على جبهته وشفتيه وبدا لى وجهه غريبا بدون نظارة ، نظر إلى لحظة كأنما يستجمع ذهنه ثم قال بصوت ضعيف وشبح ابتسامة يلوح من بعيد.. - شفتني وأنا راكب العجلة ؟

****************