غيمة

توفيت أمي فجأة قرب الفجر ، وهي جالسة بكامل قواها العقلية والنفسية ، فلم تنطق إلا بكلمتين : جرعة ماء . اجتهد الموت معها وقدم أسبابه ثلاث مرات ، فردته ، فهبط عليها كما هو – مجرد موت – عار من أي منطق ، دون سبب ظاهر يتعزى به العقل . ولم يبق أمامنا على سريرها سوى القشرة الخارجية للروح التي كانت أمنا لسنوات طويلة . 

طبعت قبلة على جبينها وهي ممدة أمامي ، وانصرفت دموعي لمشقة حياتها الطويلة أكثر من أي شيء آخر . 

سألت نفسي : ما الذي يمكن لها أن تقدمه للموت بطاقة أخيرة وهي تعبر إلي الأبدية ؟ لابد أن هناك معنى يتصل بالعلاقة بين انتهاء الحياة واستمرارية الموت ، جسرا صغيرا ، إذا لم يجده المرء يصبح الموت نهاية الطريق . ترى هل وعت شيئا تتكئ عليه وهي تسير إلي العالم الآخر؟ 

أنهينا كل الإجراءات اللازمة بسرعة كالمعتاد في هذه الحالات . جرى عمي واستخرج تصريح الدفن وقبل أن يعود لاهثا، كان آخرون قد استقلوا سيارة واتجهوا إلي مقابر العائلة لإعداد المثوى، بينما قصدت أنا مع اثنين من أقاربنا محل الحانوتي . وأصبح موت أمي موضوعا للفصال مع الحانوتي البدين الذي طالب بخمسمائة جنيه عن التغسيل وقماش الكفن والنعش والنقل الذي أعلن وهو يركز نظرته في وجهي متشككا أو مستكشفا لشيء : سيكون كل شئ على أفضل وجه . وزعق فيه قصير من أقاربنا ويده تشق الهواء باستنكار : يا عم صلي على النبي . ثلاثمائة تكفي أي والله ! وخفض الحانوتي صوته كأنما يختصه بسر: أقسم لك أني أعطيتك أقل سعر تخرج به " القطعة " هذه الأيام . وركز نظرته في وجه القصير وأضاف : صدقني . 

كانت الحياة تعتصر من الموت آخر فوائده قبل أن يفتر وتصبه على عروق الطمع والحذر والمكر . 

وبعد نحو خمس ساعات تحركت عدة سيارات إلي مدافن العائلة وهي تجهد لكي لا تفقد مسارها في الزحام . 

* * *

توقفت أختي الكبيرة عن التردد على البيت مع أطفالها بعد وفاة أمي . قالت : لا أستطيع أن أدخل فلا أجدها . وأخذ أخي الأصغر يكرر على مدى شهرين أنه مازال يرى أمنا من حين لآخر وهي تقطع الصالة بهدوء ، بل ويجدها تتحدث إليه حين يكون بمفرده واقفا في المطبخ أو الحمام . وبعد فترة قصد أخي طبيبا نفسيا يسأله منوما أو مهدئا . قال له الطبيب إنه يعاني من هلوسة سمعية وبصرية عادة ما تظهر بعد وفاة حبيب أو عزيز . كنا جميعا نشفق عليه لأنه يعيش في نفس الشقة تحيطه أنفاس أمي وأشياؤها . وكنا نستشعر صعوبة موقفه إذا تجمعنا في الشقة لسبب أو آخر ، لأننا كنا نحس أن طيف أمي منها يجوس صامتا سجينا في الهواء. 

وارتأت ثريا زوجة أخي خوفا على صحة أخي أن تبدل أثاث البيت قطعة قطعة ، وحسبت أن ذلك سيبدل الجو القاتم . هكذا فوجئنا ذات يوم أنها اشترت طقم صالون جديد . وحين شاهدناه في مدخل الشقة ابتسمت بحرج خفيف وهمهمت كالمعتذرة وهي تفرك فوطة بيدها: نوع من التغيير؟ قالتها كأنها تطلب المغفرة .تأملنا الطقم وأبدينا إعجابنا به . لكني شعرت أن شيئا من روح أمي التي اعتدت على رؤيتها على كرسي بعينه من الطاقم القديم قد ولى . ثم بدلت موقد الغاز القديم بآخر اشترته بالتقسيط ، فتلاشت صورة أمي وهي واقفة في المطبخ تغلي الماء للشاي في إبريق صاج تقشر طلاؤه . وعندما اختفت المنضدة القصيرة التي كانت أمي تجلس خلفها تفطر كل صباح أدركنا جميعا دون أن ينطق أحدنا بحرف أن ما تبقى من السيدة التي أطعمتنا وسقتنا وجعلتنا نقف على أقدامنا ينزلق من بين أيادينا إلي العدم .في النهاية قررت ثريا أن تطلي جدران البيت بزيت أخضر لامع . وحلت مكان روح أمي التي كانت تجوس بين أشيائها في الشقة صورة كبيرة لها في إطار مذهب توحي ليس بالرغبة في استبقاء وجه أمي طيلة الوقت على مرأى من الجميع ، بقدر ما تهمس بأن المساحة الممنوحة لهذه الروح قد تقلصت بحجم الإطار ، وأن عليها من الآن فصاعدا أن تقنع بصغر وجودها المثبت بمسار في الجدار دقته ثريا بارتباك وعلى عجل . 

* * *

ربما منذ أن شرع العمال في طلاء الشقة ، وربما قبل ذلك بقليل ، صرت أرفع رأسي للسماء دونما سبب ظاهر أثناء سيري في الشوارع . كان ذلك يحدث أحيانا ، وأنا أمشي بمفردي ، فإذا كان ثمة من يسير معي واستغرب ما أفعله ، سارعت أداري نفسي بنظرة أخرى خاطفة إلي ما بين قدمي أو إلي واجهة أقرب محل ، دون أن يبدد ذلك تفكير الآخر في نظرتي المفاجئة نحو السماء . 

كنت أرفع عيني إلي أعلى بحثا عن شيء مجهول لم أره من قبل . ربما كان سحابة كبيرة بيضاء ، أو فراغا لا أدري شكله ، أو روحا في هيئة غيمة مثقلة بالدمع . 

* * *

ساعة دفن أمي كنت مسروقا من نفسي ، فلم يعلق بذاكرتي سوى ذوب صور مما جرى ونحن نعبر البوابة الحديدية العالية بمدخل المدفن بين صراخ أطفال وشحاذين ومقرئين إلي فسحة المدفن الداخلية المدورة المبلطة ، وعيناي كأنما في حلم يراه شخص آخر تمسحان بنظرة غائمة أسماء الراحلين المنقوشة على الشواهد الرخامية العالية في الجدران .غالبية الأسماء معروفة لي . من بينهم اسم تهاني بنت عمي الأكبر . كانت لهم فيلا من طابقين بحديقة واسعة مزروعة بأشجار المانجو والجوافة والليمون في أرض النعام ، خيم عليها حينذاك هدوء ، وصحا فيها هواء نقي ، وتناثرت مساكنها القليلة على مسافات بعيدة . كنت في الثالثة عشرة مغرما بتهاني، ومغرما حتى باسم التدليل الذي ناديناها بها "توتة " . 

كانت أكبر مني بعشر سنوات ، لكن نظرة عينيها الواسعتين الصافيتين كانت ترتجف حين أتطلع إليها كسماء يشقها ضوء نجمة منيرة . وصار من عاداتي أن أستعد لزيارتها عصر كل خميس فأشتري خصيصا لأجلها عددا جديدا من مجلة " مئة نكتة " ، وأعكف عليه طيلة الليل أحفظ منه قدر ما أستطيع ، ثم أنام مؤرقا ، وأستيقظ يوم الجمعة مع أول خيط من النور ، وأنتقي طويلا الأفضل من بين ثيابي القليلة ، ثم أتجه إلي الشارع الموازي لشارعنا ، أركب الباص ، وأرتكز برقبتي على حافة نافذة مقعدي ، وأسرح في الشوارع الخالية التي يقطعها الباص زمنا طويلا ، وتوتة في خيالي ومناظر الطريق تتبدل. 

أصل إلي بيتهم ، وأتجول مع " توتة " في الحديقة براحتي ، لأنني صبي ، أحكي لها أي شيء فتعلق على كل ما يقال بضحكة : معقول ؟ لا . لا ! وتغرق في الضحك وهي تهتز مرتجفة مع هواء الحديقة الواهن المشبع بعطر الليمون ، وأسرد عليها النكات واحدة في إثر الأخرى بلا توقف ، فتضحك وتضحك حتى تفيض عيناها بحنان دامع وتطبع على خدي قبلة خاطفة وحمرة تصعد إلي وجنتيها . أتجمد في مكاني كالمذهول ، فتردني إلي وعيي بسؤال – كأنه استفسار عابر - عن أحوال خالي الذي أوشك على إنهاء تعليمه . لم أعرف أبدا إلي أن خطفها الموت إن كانت تداري بالقبلة حبها لخالي ؟ أم كانت تداري باستفسارها عنه حبها لي ؟ كنت أصغر من أن أسأل ، وكانت أكبر من أن تبوح . 

في المدفن كان شعوري باهرا بضوء الطفولة القديم الذي انبعث من الموت ، كأنني لم أكن واقفا أودع أمي التي نمونا على ذراعيها كحبات عنب على فروع التعكيبة . كأنني جئت لألتقي بتوته . وغمرني تأنيب مرير وعذب للفرح الخفي الذي أحسه من لقائي بتوته بعد عشرين عاما . كنت أشعر بوتر رنان يهزني من محبة قديمة لم أتوقع ظهورها بهذه القوة . كان الموت يقبض على آخر نفحة عطر في الحياة ويطيب بها القلب . 

سألت نفسي : إن كانت الطاقة لا تفنى ، فإلي أين تنصرف مشاعر الدفء والحب التي يهبا البشر بعضهم البعض ؟ هل تتجمع في مكان ما وفقا لقانون خاص وهناك تواصل حياتها في شكل آخر ؟ لكن .. أين ؟ 

لم أهبط مع أمي إلي قاع القبر . ولم أحملها إلي هناك . لم أفعل ذلك مع أبي أيضا حينما ألقوا به يوما إلي هوة سحيقة . لم أستطع . فالموت مثل حكم بالإعدام ، أما الدفن فيشبه لحظة التنفيذ حين ترى العينين والوجنتين وهي تدفع دفعا 
إلي التراب . 

* * *

هكذا صرت بعد دفن أمي ولقائي بتوتة ، أجدني إذا سرت بمفردي أرفع رأسي أحيانا بغتة إلي أعلى ، على غير إرادة مني ، متطلعا إلي شيء مجهول في السماء، كأنه غيمة من الأرواح التي تبحث عن أحبائها على مهل .