لأنهم يموتون فى الربيع

[ مدخل ]
* كل ما تظن أنه الحقيقة .. ربما كان بحرا من سراب .
* هؤلاء الناس أعرفهم ، كلما أمسك بالقلم يفلتون .
* كل ما يدعو للضحك يشدنا إلى البكاء .
* يا خالق الممر أرشدنى لفجوة كى أستريح .
* ربما لأنك تحبهم تظن أنهم شرفاء .
* كدب مساوى ولا صدق منعكش .
* أنتم كاذبون . لكنى أحبكم إذ تفتحون عالما واسعا للرؤى .
* الحزن ـ وحده ـ لا يكفى .
* أنا هكذا .

فتحى عبد التواب

للأمام تغوص أقدامنا فى رمال الحقيقة. نفتح أبوابا للرؤية فلا تنزاح التكهنات.
كان الولد الذى يشبهنى يتحسس كفل الحياة ، فتتفتح رغبته دائمة السطو على عنفوان الجسد . لا يلتئم .. تنقصه الحقيقة فيتعثر فى حجر أملس يشج الرأس مبعثرا ملايين النمل والدهشة . يخرج ملتاعا ، أحاوره فى ظلماتى مادا يدى . إليه يضحك ويتركنى . حين قعد الطاهر على كنبة الأنتريه كادت تنفجر من ثقل العالم الذى حط عليها . لم يواجهنى صخبه الرنان ـ كعادته ـ إنما حط سحابات داكنة كنست رغبتى فى الكلام ، الطواف . دار الكلام تافها عن حال العيال والزوجة وخالى عرفه وأبنائه ؛ والبراغيث التى تأكل الجلد فى ليال مظلمة . وهو غير مرتاح للحَك .. غير نائم .. غير صاح .

قلت : دمت لنا يا سيدى القلق . ودامت الفراشات الساقطات من ألق الطيران على أجنحتها دم غادر . قال الطاهر هل لك فى كأسين معتقين من نبيذ حياتى ، بدلا من تكهناتك الخاصة عن بشر من وهم خيالك يحبون ؛ قلت : ويغادرون إلى غير شواطئ . ينكفئون على أعتاب البداية ؛ محاولين فك طلاسم انهيارهم . ولم أرد .

سكت الولد الذى أحببته ، غاصت قدماه فى وحل الطريق والظلام . الكلاب مسعورة لا تكف عن النباح ، قلت يا طاهر أنت استطعت أن تعيش..تقتنص دفء الزوجة والعيال. قال: وأنت تزوجت..ما الفرق ؟
قلت كبلنى الولد بقيود وقفته لما اندفعت للدفء . للتلاحم .. أرخى حبال التواصل ، وتركنى عند بدء الظلام والظلام ظلمة . كأننا مخلوقات زئبقية تستطيل أمامنا مسافات الألم ، فينبعث فى الظلام ، فى النوم ، فى النكات الساخرة ، لكأن الحزن مقيم معنا دائما ، نندفع بلا هوادة محاولين اختصار المسافات غير مدركين أننا ننفلت حين تسبح بنا الأحلام .. ونتمدد على أول الدرب كل صباح . حاولت السير رغم قيودى . لم يندهش الولد . بل وضع فوق كاهلى الطوب والحصى . فى خلواتى يقول هئ ، وينسحب ساخرا . أمسكت بياقته .. كدت أتفل فى وجهه قائلا : لماذا تجرجرنى فى صحراء تعرف خطواتى ولا تجيب ؛ فما رد ، إنما فتح أمامى مغارات سوداء ، ورؤى كابوسية . قال : أنت فى البدء فاتحد . ولا تسلم ذاتك لدق المسامير . ذاكرتك أول الطريق للهلاك ؛ كنت واضعا يدى أسفل ذقنى غائصا فى تقاطيع الطاهر التى تشبه الولد . واضح أن الطاهر وقع فى فخاخ الدفء والعيال وأفاق هو الآخر على حصير فرش فوق حصى وزلط وحجارة مدببة . أداعب فيه الصبى الذى رافقته دافعا إليه ماء التجلى . أشده من وهدة التقوقع والتساؤل ، فتبين منه ابتسامة هازئة . قال : ماعليك إذا تركتنى ما أنقصتنى ، وإذا مددت يديك ما نجدتنى . قلت : الدور إياه . قال : أنت تعرف سر بلائى أوشكت أيام المرضى على الانتهاء . ضحكت .

كأنه تعاقد مع الإفاقة بانقضاء الأيام . وكل يوم تفر منى الأيام تاركة أشعة باهتة تضيف إلى ضباب الرؤى ؛ رؤى مهشمة ، أحلاما ؛ نواقيس خطر تتأهب لافتراسى . دبيب الشيب يتسحب قطا بريا يفاجئنى صدفة فى المرآة . أنت يا صديقى الشيب ملأت هوامش النفس . تفتح كل يوم حوارات جديدة تحت عجلات الحضور والانصراف والتلاميذ على مقاعدهم يكتبون البراءة ، يرسمون صورة لوطن تجلى دفعة واحدة .

أنا الواقف فى الطابور لم أزل . لم أتقدم للأمام أو الوراء . فقط أسير فى المكان ناظرا حولى بعدما نزلت زوجتى إلى النسوة زوجات إخوتى .. وبقيت ندى تنشر شغبها الوردى معلنة عن حضور فذ ، قائمة بأدوار عدة ، كى تلفت انتباهنا ـ أنا والطاهر ـ كنا قد صعدنا إلى جبل عال ، أشرفنا على الهاوية . متشبثين بندى وحمادة وشيماء معلنين إفلاسنا .
فى تلك الأوقات دخنت سيجارة والطاهر رفض التدخين ، رغم أنه يجارينى أحيانا .

لا أعرف للآن سر شراهتى للسجائر . كنت إلى وقت قريب أدخن المعسل والطاهر يشاركنى . كأنه عشق القرويين أمثالنا . ربما يرجع السر إلى اكتشافى الأخير . كثرت التكهنات . إذا كان التحليل إيجابيا فلا ضير . أهلا سيدى الفناء الجميل . قال صديقى الشاعر لآخر تجاوز الثمانين [ جميل هو الموت لك ] ولم يمت ؛ وقد تجاوز ـ الآن ـ التسعين .

سأل الطاهر عن مشروعاتى : سكت ولمن أقل أننى أخطط بطريقة محكمة . رؤية ساخرة تشكل بحميمية نهايتى المتوقعة .
أوعز الطاهر لى ونحن فى انتظار القطار ليلا كى يعود إلى شبرا ومنها إلى مسطرد قائلا : أكتب حكايتى . قلت : لا أكتب حكايات أحد .. فقط تنفتح الرؤى الغائمة على عالم أكثر غيوما قاحلا ، فجا لا أرتاح إليه . قال : عالمنا واحد ، فلا تتفلسف خذ طينة بينة وشكلها .. تذكرت الطير الموزع على جبلين ، مختلط اللحم والدم والملامح . إذا ناديت . لن يأتى سعيا . كان متعبا ، ولم يطل ولم أناقش حتى طواه الليل والقطار فى المساء من ذلك اليوم .. كتبت أوراقا كثيرة ومزقتها عن بدء الولد .. ضياعه فى معمل التحاليل بين تكهنات وآراء متناقضة .. حوادث صغيرة تجثم على الروح . ولم أفلح فى خلق علاقات واضحة .

أدور فى أركان غرفتى ناظرا تارة للبعيد وأخرى لهالات دخان سجائرى . أدخل مع أنفاس السجائر إلى أعماقى ، شاعرا أن خنجرا ينتظر ـ منى ـ إغفاءة أو بدونها سيلتحم غائصا ، مسربا سمه اللذيذ إلى الجسد ، فيرتخى تماما .. تماما . يمسك بالصغيرة ندى . يودع أمه وزوجته وإخوته وآخر خيوط الحياة .

فى المرة التى لم يستطع تحديد رقمها . استقرت البداية آخذة مسوح الحقيقة ، لابسة نمنمات الوجوه التى ترغب فى الانعتاق من ظلمة النسيان .

كان الطاهر ساحبا خيط البداية . يدور ويلف ، يخبط رأسه فى حوائط صلبة لا ترتاح إلى دق المسامير . فلما تعب أسلمنى طرف الخيط : وفرّ ؛ فى قطار العاشرة والثلث ليلا إلى صقيع حياته ؛ موقنا أنى لن أفلت الخيط . لذلك لم يحاول مجادلتى . إنما أوقفنى أمامه فى غرفتى ؛ قلت أتملى .. فتمليت .. إذا هم ينهضون فاتحين أعينهم صوب الوراء تارة وصوب التخوم البعيدة . كأن لمعانا يشبه البريق ، يتراوح بين السطوع والخفوت . يرمينى أحدهم بنظرة قاسية كأنه يتوعدنى . ينشغل الباقون .
بعدما انشغلت يإشعال سيجارتى ، كانوا قد اشتبكوا مع بعضهم فى عراك محتد . رمتنى زنوبه بنظرة ذات معنى فارتبكت لحظة ثم تشاغلت .

أمسكت هى خيوط اللعبة واختفت .
أخذو يهمهمون عن اختفائها ، ويطالبون بضرورة حضورها كى تكتمل الحكاية . ولأنى كنت أدرك ـ بحكمة باطنية ـ أنها اختفت كى تفسد عليهم مجلسهم . وتشغلهم من جديد .. فقد وليت وجهى تجاه ظلام بدأ ينادينى تركتهم فى غرفتى على حالهم . وتركت الأوراق ملقاة بلا نظام . قلمى على كوميدينو لبنى مغطى بزجاج سميك . تبين من تحته زهورا باهتا ، ومن فوقه طفاية وولاعة وأعقاب سجائر .