أجل .. وكان أبي

كان ابي - رحمه الله - رجلا مربوع القامة, نحيف ورقيق البدن. وكتلك الكثرة من الأباء الذين تسخى بهم البيئة الأوسطية، جعل عائلته محور حياته. ليضمن دخلا يكفل عيشها ويبقيها خلف شاطئ مدّ وجزر بحر العوز, كان يقبع في دكانه كامل ساعات النهار. من طفل الغادة الي طفل العشي - صيفا ام شتاء- تجده هناك, يكدّ في العمل مشغولا بالبضاعة: يمسح الغبار عنها او يغير مكان عرضها واذناه دائما صاغيتان لوقع اقدام الزبائن وغلبتهم من اهل القرى. ليس هؤلاء من المبذرين بالشراء.
وقع متجرنا على الجانب الغربي لشارع ايدون قبيل تسلق اربد سفوح عجلون الذاهبة بالشموخ. وبعد كل هذه السنون على وفاته وقد غديت زوجا ورب اسرة, احزن واستصعب المرور من تلك الطريق التي تقفز ارصفتها الى الصخب بعد الغروب. اذا فعلت رقرق الدمع في عيني. 
كان الوالد رجلا حسن السمعة نظيف اليد دقيق المعاملة, أعتمد سياسة الربح المعقول, فهو على استعداد لخفض الثمن بضعة قروش ليداهن غرور القرويين فيخرجون من المحل مغتبطين لمهارتهم بالمفاصلة. تراهم بين الآونة والآونة يدخلون زرافات او وحدانا يتفحصون السلع وهذه كانت من ادوات منزلية: اوان معدنية لشغل المطبخ, صحون وفناجين قهوة, طشوت ومقاعد وغيرهن من اشياء بلاستكية ملونة تكدست على الرفوف والمصطبة.
لم يترك المرحوم حوزة العمل ابدا الا وكان الامر هاما جدا والضرورة قصوى. مذ بدأت اذكر، لا افطنه غادر مكانه بالحانوت حتي وابقاني او نادر - اخي الأكبر- مكانه. ومنذ وفات جدي, ندر غيابه خارج عطل فصول الدراسة. فاذا اجبره ظرف ما على اغلاق الحانوت، فعل جهده ألا تتعدى مدة غيابه عن الوقت اللازم لقضاء غرضه.
الواقع, لم يختلف ابي عن غيره من الأباء الكادحين في اية بقعة من بقاع الارض. على أول وهلة بدا هدفه الأساسي التوفيق بين طموحه الشخصي, الوئام في بيته والطمأنينة على مستقبل ابنائه. غير أن شيئا جذريا رقّط حياته بكآبة جالسة جعلت حياته وكرا للمآسي وفصله منذ الصغر عن أترابه. 
نشأ صموتا وكتوما وقد استوطنه الشجن. في عمله, مثله كمثل من يسمون ناس عادية, عُقلت ايامهم الى ابواب رزقهم وساء هندامهم. يرتدون ذات الثياب حتى تجرب وتهلهل على اجسامهم. لم يختلف الوالد عنهم بالمظهر, كان كالبهلوان بذات البدّلة والكوفية لا يكترث لربطة العنق الا فيما حتمته الاقدار كعرس او جنازة. 
ربما لانني راقبت طريقة ملبسه عن كثب شديد ثم كنت شاهدا على تدهور صحته السريع, تجدني الآن اخذ جنب الحذر في اللباس والمأكل. ربما أنني اجد اكثر من غيري على لياقة هندامي. الحقيقة, انا حريص زيادة عما يلزم ألا يلمع بنطلوني كما رهج بنطلون ابي بسبب طول الجلوس. كان المرحوم يرتدي القميص حتي يبهت لونه لكثرة الغسيل والاستعمال الدائم.
وسعرت الحروب ضروسا هائجة, تفوح كرياح السموم من حولنا, وهو - كغيره من اصحاب الحرف الصغيرة - ضرس ثابت على عهده يضفى على حياة الناس اليومية شبح الأستقرارية والأستمرارية. أمضى المرحوم ستة نُهر من كل أسبوع بخدمة الزبائن قابعا بين جدران متجره. بين فترات البيع وهذه قد تطول لساعات - خصوصا في حينونة الظهائر والنهار أنهر والشمس فرن- انفقها ابي ويده على خده, وحداني الوجد، جالسا على مقعده وقد رثى وبلي تنجيده وكشفت اطراف هيكله الحديدية.
في اوقات الفراغ تلك تملكت ابي أحلام اليقضة ونزحت افكاره الى عوالم اخرى تتوق دمع الأماني المستحيلة بعينيه. كان المرحوم يهاجر بخياله بعيدا عن ابصار البشر العادية الى دنياه النائية. هكذا بدد عمره يشارك حياة الأخرين وهو غريب عنهم لا يشعر بوجدانياته احد. حسب علمي, لم يتعرف الوالد على انسان اخر ينادمه ويشاركه نفس الرغبات وشواطح النفس. كانت وحدته قاتمة وكاملة. أخيرا غلبه التأمل العميق والشوق الى كنه ذاته فبدا ذبول الروح والبدن واضحين عليه. في النهاية جنبته الخيبة وأقعده مرض الكآبة النفسية حبيسا البيت حتى طوته المنية. امضى ايامه الأخيرة على سريره متألما وحزينا.
كلما اشرقت ذكراه على افق خواطري, خفق قلبي بعنف شديد ولهبت نيران الآسي بين اضلعي وطفطفت دموع الحزن بين مقلتّي. لازلت أحس راحة يده الوديعة تربت بلطف حان على شعري. اذا صنت, سمعته يتنهد محترقا بهشيم اعماق ذاته المعذبة وهو يقول بصوته الهادئ الودود، "ياولدي، الدكان مصدر رزقنا."
وحتى لا يكشف عن تكدر باله وعبوس حاله, كان يتدارك شتات خاطره بسرعة خاطفة. فاذا نظر صوبه احد من ابنائه, ومض أجفانه ليخفي حزن عينيه. وبذات السرعة فرد حاجبيه ليورّى همه الثقيل ثم وضع ابتسامته الوديعة على اسارير وجهه الطويل الابيض ليراعي احسايس الطفل الذي وقف امامه.
ولما كنت ونادر بين سنّ السادسة والعاشرة من العمر كم كنا نغير من ذاك الدكان الغبر الذي اختطف ابانا منا. فاذا حنّن شجر اللوز وبسط نيسان سجاجيد الربيع الموردة على سفوح تلال اربد وغدا تراب سهولها الأحمر اخضر حاني , اعتدل الجو واصبح الجري واللعب والشيطنة بالحارة محور كل شيء بالنسبة لي ولأخي واختي. صغرتني دعاء بعام وبضعه كما كبُرني نادر بذات فرق السنّ. كنا نلحّ على أبينا:
"اغلق الحانوت مبكرا اليوم يا ابتي لتلعب الكرة معنا. طيّر طيارة الورق لنا كاباء أقراننا." حتي ايام الجمع تحجج باوراق الدكان وحساباته.
الآن - وقد اصبحت رجلا تجاوزت نفسانيته ظواهر الأشياء الى كنهها وقبلت ذكورتي حقيقة حيائية الإنسان وتخلفاتها- احب الجلوس مع أمي لنطرق بالكلام خوالي الأيام. لنسترضي ضميرينا ونخفف من ثقل تأنيبهما فكلانا يعتقد انه من قتله،  نستخلي بعيدا عن سمع زوجتي واولادي ونتحدث بصوت خافت عن حياة ابي وعهد الطفولة.
تعلق نقط الدمع الكبيرة على اهدابها السوداء وهي تقول، "كان رفض المرحوم الخروج معكم الى الحارة يحزنه كثيرا. بعد ان تنصرفوا الى اللعب كان يبكي بحرقة لخيبتكم به كأب. وكم شكا لي ما احتقن بفؤاده من عذاب. كان يطفر ويغضب ويصرخ بحنق شديد. وبعد ان تهدأ انفاسه يقول والله ليس الأمر باستطاعتي يا ام نادر. انني حبيس لهذا الجسد الذي لا أفهمه."
تكف امي عن الكلام لهنيهة تهدئ النجوى في صدرها. تسرح عيناها وكأنها تناجي زوجها وهي تضيف بالكلام, "لقد عقّد انكسار روحه نفسيتا نادر ودعاء. ذكر الله اختك بالخير! تُرى كيف اصبحت احوالها؟" وعلى طرء اسم ابنتها لا يعد بقدر الدمع ان يبقى عالقا باطراف رموشها فتهطل حباته غزيرة فوق خدّيها وتعقد فوق رأس انفها وأسفل ذقنها. نتشارك الحزن صامتين الى وهلة قبل ان تفقسه الوالدة رؤوفا بي بقولها الذي تعلم حبّي لسماعه, "ياعلي! انك آسالِِ من ابيك." قرب سرّ ابي بين امي وبيني كما فرقنا عن أخي وأختي.
في اواخر السبعينات من القرن العشرين كان لي ولنادر من العمر إحدى عشر واثنا عشر عاما. حينئذ تهنينا برفقة ابينا, لله درك يا زمان الصبا والبراءة والولدنة. بعد حلة المدرسة أسابق نادر الى الحانوت. نجد الوالد محاطا بأخلائه، جالسون على مقاعدهم البلاستيكة في ظل التندة على رصيف الشارع كل يدخن نارجلته, منغمسون بلعب طاولة الزهر. علق منظر الأسكملة الخضراء في مخيلتي فكأني اراها الآن بعين خيالي. كان عليها دائما جرة السوس وقت الضحى وابريق الشاي حين العصرية. دفع خاسر اللعب ذاك اليوم ثمن الشراب لصاحب المقهي المقابل.
نشأ ابي شديد الحياء انضباطي التصرف قليل المزيح والهزل تخوفا من تنكيت كنانته. على صغر تعلم الكتمان وعدم التسرع بالحديث كي لا تصدر من فيه كلمة ضائعة تفضح سريرته. درس بعمق جميع حركاته ونبرات صوته امام الناس. عدا زوجته لم يطفر ابدا لأحد اخر بما تمنته كنينته. سنة عن سنة, وقد اثقلتني الهموم والمشاكل اليومية, اصبحت عشيات الصبا بخيالي تفوح بالسعادة والمرح. بعد حضور شمش وراء بطاح فلسطين الزرقاء, تاركت الغرب من اقصى شماله الى ادنى جنوبه نيران تعلو دخاخينها الى اعالي افق الغسق, عاد ابي الى البيت. كنا ننسى اللعب ونجري لأستقباله يملأ صياحنا صحن الدار. يرفعنا الواحد تلو الآخر ويلف بنا. نضحك ونقهقه فرحين مبتهجين, وكل واحد منا يرفع وجهه اليه ملحّا، "دوري انا. دوري انا." بعد قليل من الوقت وكان حريصا أنه قد عدل بين أبنائه, يقول وهو يلتقط انفاسه, "خلص! خلص! اتعبتموني ايها الشياطين الصغار." 
تهدأ ضجتنا ونسبقه الى داخل المنزل. تقودنا امي فورا الى الحمام بينما يسرع زوجها الى غرفة النوم تتسابق قدماه ليخلع عن كاهله هموم النهار ويعد خارجية مظهره لتطابق داخلية نفسه.
واذا قرص برد التشارين الطقس وطالت الظلال وحلّت العتمة مع العصر استحلك الليل مسرعا واسدل أخماره السوداء الثقيلة على الدنيا, عاد ابي من الدكان مبكرا. بعد العشاء, اوصدنا باب البيت بالمفتاح والغال وفردنا الستائر على الشبابيك. جلسنا حول ابوبينا بالبرندة نشاهد التلفزيون او نصغي لهما بشغف لذيذ يسردان لنا سوالف الفرسان والأميرات والأشباح وعبث الجن. واطفالهما بين الصحو والنعس, حلم الزوجان بمستقبلهم.
توصدهما وثائق المحبة والصداقة العميقتان, اسمع امي تقول لابي: "الدكان لنادر، هو الكبير."
أشعر بالغيرة فأتململ على الدوشق لأشعرهما بسمعي لهما بينما ينفرد وجه اخي بغبطة الكبرياء. وكأن ابي قد احس بخذلي, يمسدني بنظرة حانية وهو يجيبها, "اذا خلا المحل المجاور نستأجره لعلي."
"وانا يعني؟ وأنا يعني؟" تتمرد دعاء على ركبته, فلم تسمع اسمها.
"وانت؟ سنفتح لك صالون تجميل." يراضيها ابوها ثم يضمها الى صدره.
كانت دعاء غندورته المدللة لا يطيب له ان يزعلها احد. يهدأ صوتها فترفع وجهها اليه وتمر باناملها الصغيرة على شعره الناعم المسجى على كتفيه وهي تقول "واسميه سعاد."
هكذا كانت طفولتنا مستقرة وآمنة. نرفه في دعة من العيش على حضن ام رؤوم وتحت كنف اب طوقنا بحمايته.
"سعاد سرّنا ياصغار. حذارى ان تطلعوا عليه احدا." كانت تنجو الوالدة دائما على سمعنا لتجعل من سعاد, زائرة اماسينا, لعبة نلهو معها. قبلنا قولها على ظاهره ولم نخض بمعناه. مرت سنون قبل ان سمح لي كبرياء الذكورة الأعتراف بكامل كنينة ابي. الآن اغوص الي اعماق ذاكرتي واعجب لبراءة الطفولة.
وهكذا مرت الأيام حتى كبرنا الى سنّ المراهقة. انقلب صحو بيتنا الى عواصف لا تسكن ولا تكنّ . خلال حقبة البلوغ الحرجة تلك - بين الطفولة والنضوج – تبلغ جنسانية الفرد الحُلُم فيبدأ التساؤل والإجابات لا تقنع. حينما كسا الزغب ابداننا وقد بدت كالعوسج كلها اطراف رفيعة, طويلة وشائكة, استبدلت سهراتنا الوديعة بصحبة سعاد بالشجار والنحار الصامتين. اخرسنا الخوف من العار والفضيحة وتفشى امرنا بين الصحب والناس عن رفع الاصوات بالصياح. جثم سرّ ابي قاتما ثقيلا على انفسنا حتى كاد ان يخنق انفاسنا. كرهنا سعاد ونفرنا منها ولم يعد لأحد منا حتي القدرة على الأعتراف بوجودها.
ربما لأن نادرا كان اكبرنا سنّا, فهم طبيعة وضعنا العائلي قبلي. اتخذ اخي موقفا صارما جدا تجاه اباه. اذا حضر وقت الطعام وكان الرجل موجودا, ترفع نادر عن الجلوس معه. رفض الابن البكر حتى مشاركة ابيه مائدة طعام واحدة الا وفي بيتنا ضيف, وذلك تسبقا للتدخل في امرنا الرهيب, تجنبا لخلق وضع حرج او الفوه بكلمة عابرة قد تفضحنا وتأتي بما لا تحمد عقباه .
غريزيا ام تشبها باخي لم تمض فترة طويلة وشاركته خصام الأب, فلا يكلمه احد من ولديه الا مجاملة امام الجيران والزوار. اما اذا تكلف ولد وخاطب اباه, كان الكلام نترا, عصبيا لا يزيد كلمة عما يفي بالاجابة. الأعجب بالامر, سرعان ما اقتدت دعاء باخويها وكانت اصلفنا بالتصرف والعداء. توقف نادر عن الذهاب الى الدكان فحذوت حذوه. ربما اوجع ذلك الوالد اكثر من اي عمل عاق اخر قمنا به وامله ان يرثه واحد من ولديه كما ورث هو المحل عن ابيه. ورغم توسط الوالدة ولينها احيانا وتعنتها آنات اخرى, أصررنا على موقفنا ورفضنا رفضا باتا الرجوع الى الحانوت الا شريطة الإيفاء بطلبنا وكان ذلك مستحيلا.
بقيت الوالدة على صداقتها وولائها لزوجها ثابتة العزم. وهكذا انفصم بيتنا الى شقين متحاربين. الوالدان في مخيم وابناؤهما في المخيم المعادي. التهمنا الخزي والقرف من منظر ابينا في فساتينه تذوق المساحيق وجهه لتخفي سواد ذقنه. اختفت ليالي السهر امام التلفاز. ندخل الثلاثة الى حجرتنا حالما دخل ابي البيت. بعد صلاة العشاء يتناول طعامه صامتا قبل ان يغير الى فستان. نسمعه يتحدث هو وزوجته ساعة زمان قبل ان يذهب الى سريره مبكرا ليفسح المجال لأولاده الخروج من اسرهم الافتراضي.
غالبا ما كانت تهب امي بنا, "حرام عليكم هذا العمل الاجرامي. انه ابوكم."
وطبعا لم يطل الوقت حتى تعلمنا بما نجيبها. تغرورق مقلتا نادر بدموع الحنق وهو يقول, "كيف ندعو ذاك الرجل المتأنث ابي؟"
غير ان دعاء تمادت بالتهم فصارت تزعق بتهمة خفية لم تخطر لأخويها (ان خطرت بقيت سرا), "زوجك خنثاء!"
غضب امي كان اشبه بالبركان حينما تجرأت ابنتها على ذلك القول لأول مرة. فصفعتها كفا انهال على خد اختي يوزن قناطير من السخط.
خوفا من ان احمل تعبيرها الى نهايته الحتمية, لم اجرؤ على نقاش معني تهمة اختي او الى ما تطرقت اليه من حصر الذكورة والأنوثة حتى في طيّ نفسي . لكن نادر لم يستطع ان يطوي قول دعاء بصدره. اشتد غيظه وغدى يفور ويثور بالجميع لأتفه الأسباب. اصبح ثقيل الوطأة مهيمنا وطاغيا وتجاوز كل حدود الادب. خاصم اباه كليا ورفض الحديث مع امه الا للضرورة القصوى. أمسى نادر على ما اصبح عليه, ثائرا وساخطا على كل شئ. تدريجيا حدث نفور غير معلن بيننا كابناء, لم نعد نتحدث او نعلب سويا كما كنا نفعل من قبل, مراهقون باضعاف مشاكل أقراننا. ولما كنت اتحزب لتصرفه وتعلمنا كتم السر منذ صغر, لم افش تغيب اخي عن المدرسة لوالديه ففشل ذاك العام فشلا ذريعا.
جرت احداث احب ذكرياتي عن ابي مساء يوم خميس باواخر شهر ايار. اكنز ذاك الحدث في غمد فؤادي ولا افرط باي من تفاصيله. دفع ابي باب حجرتنا جأشا يلوح بشهادة نادر. "ما هذا؟" وقفت امي الى جانب زوجها وقد كلح لونها مثل لونه. لاذ ثلاثتنا بالصمت, لكن نبضي خفق بشدة على رؤيته. لو طُلب اليّ ان اختار له صورة واحدة, فلن أتأنى بالاختيار. تلك هي اللقطة التي اود ان أذكره بها واحتفظ بها الى الابد: وقفة ابي في وسط الحجرة ينتفض بغضب اسود ورم شرايين رقبته ووجهه حتى نبذت غليظة داكنة الزرقة.
لمحت اخي بطرف عيني, فكان بصفرة الليمونة ترتعد اطرافه خوفا. لم يجسر على نبض بنت شفة. غير ان دعاء لم تفقد جرأتها امام هجوم ابيها فصرخت متهكمة لتجرح كرامته قاصدة, "ومالك انت تصيح بنا وكأنك رجل!"
لا اظنها قد أطبقت فاها بعد على الشتيمة قبل ان لطم وجهها كفا اسقطها على بلاط المصطبة ثم تبعته ركلة ادمت انفها. لم يوفر نادر ليلتها وطالني من عقابه نصيب لازلت اتذوق لذته. تلك هي المرة الوحيدة والأخيرة التي امتدت بها يد الوالد على احد من ابنائه بغضب.
وفي مساء اليوم التالي, وكان قد عاد الى البيت من الشغل وتناول عشائه, دعتنا امي للمثول في حضرته. بدا وجه دعاء متورما من علقة البارحة وبرقع زراق الضرب اجنابي واجناب نادر. اطاع ثلاثتنا الامر. تقلبت مشاعري بين الخوف حينا وبين الحب والأحترام احيانا, ولكن ذكرى سهرات سعيدة جعلتني امل. "قبلوا يد ابيكم." قادتنا امي امامه. كنت الأسبق وتبعني نادر. ترددت دعاء حتى لكمتها امها.
استقام ظهره على مقعده ليضفى هالة من الخشونة على هيئته. لم تفتني نظراته المتألمة ومسحة الحزن فوق جبينه. كان في ضيق نفسي شديد ولم يخف ذلك على احد منا. توقعناه بفستانه الأخضر, احب الوانه. جلس ابي فاجج الفخذين ببنطلونه القديم وحذائه البالي. تلاصق ثلاثتنا على الدوشق نطرف اللفتات صوبه من تحت لتحت نترقب دخوله حجرته كي يغير لفستان او دشداشة مطرزة. لم يفعل تلك الليلة ولا الليالي التابعة. عادت جلسة العائلة الى شبه غابر عهدها. حاول كل منا ان يسترجع سعادة ومرح السهرات الغابرة ولكن فقدت الروح منها. ذهبت سعاد واستوحشنا أنسها. شاركنا سعيد السمر, ولكنه كان ذلك البائع التعب ذو الدكان الغبر وليس عنده من الحديث سوى صغير القول وممله.
احسن نادر بالمدرسة واسترجع مكانته المتفوقة بين الطلاب. هدئ اضطراب نفسية دعاء القلقة واختلف تصرفها. وضعت بعض المسافة بينها وبين اخويها وتقربت من رفقة امها حتى لاحظتها ذات يوم بفستان مزهر جميل وحمرة طفيفة لونت شفتيها وخديها ومسحت مرود كحلت اهدابها السوداء. كان كل ذلك مستجدا عليها. رفضت دعاء فيما سبق ان تقلد البنات بمثل سنها وكانت في ذلك الحين تدنو من الخامسة عشرة. قليلا ما رايتها الا ببنطلون الجينز او مريلة المدرسة. اغثتها فكرة الزواق الى حدود الغيبوبة. كانت تصرخ بوجه امها حانقة, "مثل زوجك باحمر الشفاة."
اينع ثلاثتنا ذاك العام بما اعتقدناه الوضع الطبيعي لكل اسرة. عدت واخي نتردد على الحانوت, شابان نختال فتوة وكلانا شاربه ضخم يخفي فمه (على عكس ابي) وكصنعة الرجال شاركنا بمجالس العصّرية حول منضدة النرد. 
بالصيف التالي نجح نادر بالتوجيهية وبمعدل جيد. تمنته الوالدة لو يلتحق باحدى جامعتي اربد, اليرموك او التكنولوجيا. بقي ابي صامتا وذهب نادر الى الجامعة الاردنية بعمان.
كلما اذكر صقيع تلك الليلة ارتجف بقشعريرتها. اختفت سعاد كليا من حياتنا او هكذا احببت ان اعتقد. لم افكر انها لا تخرج الا في الظلام الدامس. عندما سمعت صراخ اختي, كنت اراجع الدروس بحجرتي, استعدادا لدوري بامتحان التوجيهية. 

هرعت الى البرندة حانقا مقاطعتي الدرس. توقعتها تتشاجر مع امها كالعادة. كانت دهشتي مضاعفة لوجود ابي يقف ببنطلونه البالي واجما. لا اراديا كشفت عن معصمي لاقرأ الوقت وقد ادركت انها غير ساعة عودته المنتظمة. كانت امي تقول لاهثة, "اي نوع من الحيوانات انت؟" توبخ ابنتها اللتي بدت ترتجف منفعلة.
"ما الذي حدث؟" تساءلت ولا اعلم من منهم سيتبرع بالرد.
غير ان دعاء لم تبخل به. انتصبت واقفة ترعد امام ابيها وقد فارقها ادب الاناث وحياؤهن. صرخت بعناد اشد من المعتاد, "واين هو الرجل الذي سيمنعني يا ست سعاد؟
ساخذه لاخلص من عارك."
كضمت غضبي وانا اسألها," تأخذين من؟" لم افهم الوضع ولم احصل على اجابة. بعد هنيهة دار لي مضمون الكلام. فاستطردت ارفع صوتي فوق صوت اختي,"هل اتاكي خطاب؟ والمدرسة؟ عليك التوجيهي العام المقبل!" ثرثرت تنتقل عيناي بين الوجوه الثلاثة.
" انت ونادر لا تعرفان بخداع سعاد." التفت دعاء صوبي تقول بغل وهي تصرك اسنانها ، " انها مختبأة بالصوان. تمضي الليل على السطوح تحف ساقيها وتطرز اثوابها."
لم يكن هناك اي تردد عندما اشعلت دعاء قنبلة الكلام ورمتها بوجه ابيها تقصد قتله. صوبته بجرح بالغ ادمى قلبه. انهار الرجل على مقعده منهزم الشكيمة. اما انا فقد تعثر لساني فلم اجد ما اقول. انطوت امي على الصمت المطبق. غير ان اختي استمرت تلعلع حتي ارهقها الصياح.
قبل ان تعلن خطوبتها اختلت بنادر فخرج من الاجتماع واجم المحيا مؤيدا لموقفها. تزوجت دعاء من اول شاب تقدم لها وباعتقاد الكل انه لم يكن اهلا بها. ميزته الوحيدة, من وجهة نظرها, انه من اقارب لنا يقطنون دير الزور على الفرات وقد ارادت دعاء البعد عن اربد. 
بعد زواجها السريع، لم ار اختي في بيتنا ثانية الا ابان مدالة ابي.
بعد اختفائها من البيت وغياب نادر عنه, مالت علي امي تستأثر بعواطفي حتى التحقت بجامعة اليرموك وبقيت معهما باربد. 
في عامه الثاني بالجامعة, مثل دعاء, اختفى نادر من المنزل تقريبا. كان يأتي ايام الجمع ولكن ذلك نبض حتى جفّ. صار ابي يرسل اليه المصروف عن طريق البنك. بعد ان تخرج اخي اشتغل بالعقبة ولم نعد نراه الا بالمناسبات النادرة. بعد زواجه غاب كليا عن حياتنا. عدى عن مكالمة هاتفية تجريها الوالدة لتطئمن عليه. 
واخذت عدواة وخصومة نادر ودعاء من صحة ابيهما نصيبا كبيرا جدا. فحتى ذاك الوقت كان مشوار حياته رحلة جبلية صعبة, بعدها صارت تسلق صخور صماء باهظة. ان بدا نادر ودعاء ولد وبنت عاقين بحق أبيهما فانا وامي من ساقه الى حتفه.
صدمتني تهمة اختي صدمة عنيفة. تركتني مظلل الفكر اتهرب من مواجهة الواقع وكان الامر جليا امامي لو رغبت ان ابصر. وفي البداية, وبالرغم من شكوكي وضنوني, رفضت ان اصدق. 
بعد ان صفت الدار وبقيت وحدي اعيش مع والدي, كدت مرات ومرات ان اخرج من حجرتي لاتلصص حقيقة امر تخفي سعاد على سطح الدار, لكن لم ارغب معرفتها. منذ ليلة الصقيع تلك, حينما فُضح سر سعاد, تعودت ان اغلق باب غرفتي وان ادمل راسي تحت اللحاف كي لا اسمع.
استمر الامر على تلك الحال حتى ليلة سمرت نجومها نواص في سماء لازوردية الزرقة, صافية وبارعة الوميض تثير الحنين بالقلب الاسود. كان تموز في اوج مجده ، هادئ ووثير. حمل الزفير, وكان عليلا ونقيا, بسكون الليل هسيس ابي وامي من على سطح الدار الى اذني رغما عني. تمللت وتقلبت على سريري لا اريد ان اسمع. واخيرا لم اتمالك الصبر, فتسللت من فراشي اغامر بشجاعتي. تلصصت خفية على الدرج الى ظهر المنزل.
شاهدت سعاد بكل زواقها وحليها بفستان اخضر وحقيبة سوداء تدلت عن كتفها وهي تتخايل ممشوقة القوام بحذاء ذو كعب عالي. كانت هي وامي تسيران بخطي خفيفة تتهامسان بالسحر. صدق حدسي. عدت الى مضجعي مضني القلب ادمدم اسماء ومسبات اكره ان اكررها. والمدينة غافلة, خلف سدل الظلام تأنق أبي بفساتينه البهيجة يختال كالعروس بكل الانوثة المحرمة عليه.
سمعته مرة يصف لامي كيف يلبس ملابسه التحتية. لا اعلم ان بكيت ام ضحكت بتوتر نفسي على ما كان بالنسبة لي حينئذ مهزلة المشهد. قال الرجل لزوجته, "اسحب كل شئ من الوراء ومعظمه يذهب من حيث اتى. ما تبقي يمكن هرسه بلطف."
تعاميت وادعيت عدم المعرفة فلم اجد القدرة على مواجهة سعاد. أضنكت الحياة في وجه ابي وعاف الاكل. طوى على نفسه ونحل وتملكته حال من السّوداء قبضت نفسه انقباضا شديدا. وبالرغم من توسل زوجته, صار يحبس نفسه بالدكان فلا نراه بالبيت الا بعد التاسعة ليلا. التزمت انا الطرش والبله امضي وقتي بالجامعة او خارج البيت برفقة اصحابي. رسخ الايمان بقلبه ان ابنائه لن يقبلوا به كما هو.
وبالنهاية حدث المتوقع فاودعه السقم الفراش وكم قاوم حتى لزمه مجبرا. لم يجد الاطباء علته وقالوا انها حالة انهيار عصبي صعب ووصفوا علاجات شتي لم تُشفى من جوع او سقم.
إبان تلك الحقبة القاسية تعلمت شيئا كان له فيما بعد اكبر الأثر على تكامل شخصيتي كانسان وكرجل. كنت قد وصلت البيت لتوي عندما اخذتني جدتي, امه, على جنب وكان قد تردى وضع ابنها الى حد الموت. قالت والحزن يغلبها, "حرام عليك ياجدة!"
نظرت بوجهها الاجعد لافهم ما تعني وابقيت لساني حبيس فمي. لكنها اكملت بنفس الهدوء والحكمة, "الكمال لله وحده, ياحبيبي. سامحه ان كان قد اخطأ بحقك كأب."
هززت وجهي بالنفي وتكور الدمع باطراف عينيّ. وضعت يدها الى مؤخرة عنقي وجذبت جبيني حتى لامس جبينها وهي تهمس, "ياعلي! اقبله كما هو. انه ابوك."
"تعلمين؟" وكنت اعتقد ان السر لم يخرج من باب بيتنا.
تقابلت أعيننا وكانت الابتسامة ترف كالفراشة الحيرانة على شفتيها ثم اجابتني، "ومن رباه ياحبيبي! انه ليس لغزا لا يفسر او احجية لا تحل. انه رجل بسيط للغاية صميم القلب والمودة." 
ارخت يدّها عن مؤخرة عنقي ولمست بها وجهي بحنان وهي تضيف, "من منا وليست جميع تصرفاته عادية جدا, ياحبيبي. كان ابوك طفلا لا يتعدى الرابعة من العمر عندما بكي ليلبس مثل اخته. قلنا صغير لا يفهم. كرت الاعوام وكبر الصغير. اتهمته عمتك بسرقة ملابسها وكنت قد لاحظت اختفاء بعض من هدومي . دخلت عليه يوما على غفلة وكان بشرشي يتمايز نفسه امام المرآة. ماهذا ؟ صحت به وهددت. بكى واعترف بكل بساطة. خبأت ملابسنا واخفيت سره عن ابيه واخوانه. ذوى المسكين كحاله الآن. تركت خزانة ملابسي مفتوحة وخرجت. عندما عدت وجدتها بغير الحال التي تركتها. لكنه بدأ يتعافى."
علمتني جدتي ان الاسئلة اكثر من الأجوبة وهي متعددة ولا اعرف منها الا ما هوجني اليه الغرور وكنت اعتقد انني وجدت الحلول لكل لغوز الوجود. غير انني لم اكن بعد قادرا على قبول حقيقة وجود سعاد وتجاهلت السطوح.
لم يسترجع ابي عافيته. اخذ الانعزال والسرية حقهما من نفسه فلم اكن اراه الا شارد الافكار وقد مات العالم من حوله. مهربه الوحيد حانوته وديوان اصحابه حول طاولة الزهر لا يتبادلون من الحديث سوى عمومياته. ادرك المرحوم آنذاك ان ولديه لن يتبعا مهنته بالتجارة. وحتى اقعده المرض ثم تناولته المنية لم يغلق حانوته في يوم عمل.  وعندما اعجزه السقم وعاف جسده الواهن الدهون واللبس الا فيما صدف ، صار يصّبر فساتينه على السرير ويستعرضها على جسمه النحيف وهو يرتجف امام المرآة. زاد تكتمه يئن بدنه الهزيل من حبس روحه. رفض ابي التخلى عن فساتينه وكان يقول كلما اقترحنا عليه الفكرة, "اتركوا لي هذه الاوهام, ففيها حياتي."
لا اذكره ابدا فرح لتجديد ملابسه الرجالية. لبس البدلة حتى بهت لونها وبليت غير عابئ بقيافتها. اما فستان جديد فلم يبخل عليه بالعناية. وفي ذلك الحين اذا ما ارتدي وتخضب بمساحيقه وتطيب بعطوره, صار علينا ان ندعوه سعاد, فاذا اخطأت او نسيت ودعوته ابي, تحفز الدمع الى عينيه فقد تقمص في حالته تلك الانثى الكاملة, ضعيف وناعم. بدا راضيا مرتاحا راحة لا تعرفها قسماته الا لحظات مناجاة سعاد.
تحولت علاقتي بوالدي الى شىء اقرب من الصداقة وكنا مكتفون داخليا بحضور بعضنا البعض. كان الوالد يشرح لي صدره ونحن على عتبة البيت اقف خلفه وقد صاحبته من المتجر الى الدار. كان يتكلم مع امي وكأنني لم اكن بجانبه وعلى مسمع منهما.
"علي شاطر سينجح بالدراسة. هذا امر لا اشك فيه. ربما يتوظف مدرس. دائما المدارس بحاجة للمعلمين. اذا احسن قد يُنتدب الى الجزيرة. الرواتب هناك افضل. يمكن يوفر له قرشين للمستقبل."
اجيبه مازحا, "انا افضل الجزائر."
تضحك امي وتقول, "الجزائر ياولد بعيده. والله ما في احسن من هواء اربد."
"طول عمرك مزاوغة, يا ام نادر" يرد ابي عليها وكان قد دلف من الباب.
فاما اذا كان غاضبا مني ذلك النهار فيقول لها, ويقصد ان اسمعه. "علي تيس!"
وكان قد خطط مستقبلي من جديد. "لا يصلح ان يكون غير لحام في المسلخ."
او يقول قبل ان يدخل من الباب, "علي يصلح موسرجي. لقد تكلمت مع ابى سليمان الموسرجي قال لي هناك طلب متزايد على الموسرجية وهو دائما بحاجة الى مساعد مستعد ان يتعلم الصنعة. اذا كان الولد متحمسا لكسب لقمة العيش سيجد الكثير من الطلب عليه."
تلك ومهن كثيرة اخرى فكر بها ابي ربما ليحفزني على المطالعة والاستعداد للامتحانات والغالب كانت لشعوره براحة نفسية وانا معه. كنت في عامي الاخير بالجامعة عندما تخرج نادر وبدأ العمل بالعقبة. قلّت مصاريفنا واقترحت على امي ان نشتري سيارة. وبالفعل تم ذلك واستلمت مفتاحها. استحدثت بسببها على حياتنا
رحلات الربيع الى منتزه اشتفينا. ذهبنا الثلاثة تقريبا اسبوعيا. 
بعد انتهاء صلاة الجمعة, ارجع وابي من الجامع القريب من بيتنا فنجد امي مستعدة. اضع الاكل وبقية الاغراض في صندوق السيارة ونأم جبال عجلون.
وفي ظهيرة, وكان ابي رجلا وهانا رهل الملبس, قالت له امي وهي تقصدني مازحة وربما لتمتحن رد فعلي, "يا سعيد! لو تلبس فستانا بدل هذا البنطلون المسخ." ولكم اكلت نفسها بالندم ساعة لا ينفع الندم وكانت جدا حريصة على سره.
رمقني ابي لحظة مترددة فاحتفظت بصمتي. من يعلم ماذا جعلني اخذ المجازفة بل ان اخاطر لتقع عيناي على عينيه فيدور بيننا ذلك الحديث الصامت تحت سماء ذاك هجير الحارق. لم يتعد لقاء عيوننا سوي جزئ بصير من الثانية جعلني شاهدا على الشىء اليقين. كانت سعاد قبالتي, متحفزة وصامتة. ربما لم يكن ذلك الأمر المهم في الولهة الأولي. مجرد نضرة للحظة خاطفة كسولة على احلامها. ولكنها حينئذ كانت مباغتة ماكرة, مباغتة اوقفت الساعة كليا, حتى تنفسي توقف وشعرت ان قلبي سيقفز خارج صدري. شىء ما تجمهر فجأة على افكاري, شىء قد تسميه هدوء خيال حشد جيمع السنين فطفت الحقيقية الى سطح الوعي. 
لاول مرة, وربما كانت الاخيرة, استنار عقلي بنور يشرق طريق القليل جدا من الناس ورأيت ما تراه امي. ذاك الشخص امامي كان امرأة تلبس ثياب رجل بائس. أخفت رأسها تحت كوفية حمراء يكللها عقال اسود كي لا يستطيع احد ان يتطرق الى وحدانيتها. ابتسمت لها ابتسامة واهنة. اختفي ابي داخل البيت وخرج بعد ساعة بفستان احضر انيق واخفى ذقنه تحت قناطير من مساحيق الخضاب.
"لا يا ام نادر! الله يسامحك." ابتسمت عيناه على سرير الموت يعفى زوجته عن ذنبها وهو يقول, "شكرا من اعماق ذاتي التي كافحت تخرج الى النور. انت وعلي لكما صلاتي ودعائي الذي لن ينضب. شكرا لكما لتلك الساعة في حقول الشمس. كنت عارضة ازياء في ظلام بيتي. ساموت وقد نلت امنيتي. ذلك اليوم في غابة اشتفينا كان اسعد ايام حياتي."
كانت المرة الاخيرة التي خرجت بها سعاد خارج الببت. وبينما كنت وامي نشعل الفحم لشوى الكباب, اختالت تهز عجيزتها تحت ظلال اشجار البلوط والخروب سارحة الخيال باحلام لا يشاركها بها احد. كانت امرأة ذات جمال وفتنة, عندها انوثة زائدة وخصائص تنفرد بها. على فجأة سمعنا صوتا مكتوم يستنجد بنا. تبادلت وامي النظرات واعيننا مدمعة من دخان الفحم. تركنا كل شئ على ما هو ورحنا نجري صوب النداء.
احاطت عدة من الغلمان بسن المراهقة سعاد وهي ملقاة على التراب. لم تخف على جنسانيتهم المتحفزة للبلوغ ان خلف المساحيق رجل. هجموا عليه وضربوه ضربا مبرحا وهم يضحكون عليه ويسبونه وينعتونه عرة الرجال. وعندما لم يعد بمقدور ابي تحمل الوجع, من حرارة الروح استنجد بنا. هرب الاولاد على ظهورنا. لم نرجع بعد ذلك الى غابة اشتفينا.
قالت الرحمة والانسانية, "خذ الرجل الى اقرب عيادة طبيب." وكان مستشفي عجلون قريبا. لكن الواقع كان صوته اعلى, "يا للعار! ان احدا شاهد ابي مخضب الوجه يرتدى فستانا! ماذا اقول؟" 
سقت السيارة مباشرة الى بيتنا باربد. الحقيقية لم تتدخل امي وتأمرني, "خذنا الى اقرب طبيب, يا علي." كانت مثلي واجمة بينما انين زوجها ملئ المعقد الخلفي. الحقيقة المرة لم يلتفت احدنا الى الخلف طوال الطريق حتى يجفف دمه او يقول كلمة تواسيه. 
بعد ان غيرناه الى شكل رجل دعونا الطبيب. لم يذكر ابي ما حدث بالمنتزه او لماذا لم نأحذه الى المستشفي لكنه عاف الحياة.
اغلق الدكان واعتكف في حجرته, زاده الوحيد الكرامة وعزة النفس. سألت امي وكنت اخجل من طرح السؤال عليها في حياته, "هل كان ابي جادا ان يكون امرأة؟"
هرقت الدمع وهي تجحمني بنظرة بلهاء والاثم يعذبها ثم اجابتني وكأنها تدافع عن شرفها, "ومن اين اتيت انت واخوانك ياعلي!" تداركت نفسها ثم قالت, "انني لا افهم بالطب يا بُني ولا بالجينات التي لمتها لاختلال تصرف ابيك. ليس لي سوى ان احبه.
لم يخدعني او يغشني يوما. منذ البداية فتح لي صدره وبكى على حضني حظه التعيس من العيش. لا... كان حبيبي رحمه الله في وسيع جنانه. لا اذكره الا عاشقا وارف النغم. لم اعرف في احضانه غير كل ما تتمناه المرأة. اجل كانت هناك اوقات شك في البداية وصعب عليّ تقبل الحقيقة وفكرت بالطلاق. نوهت لامي. قالت يا ابنتي الزواج رفقة والزوج المحب, مهما كانت عيوبه نفسه, كنز. احميه بحبك وستجدين حياتك سعيدة لا يشوبها شئ. ربما لحظات كآبة على آمال لو!"