زوينة وأدب الغربة في الرواية العربية

يتميز الروائي المصري محمد جبريل بغزارة الإنتاج خاصة في السنوات العشر الأخيرة , فله كل عام تقريبا رواية أو مجموعة قصصية , بل إنه لينشر أحيانا أكثر من عمل في لسنة الواحدة , والواقع أن التميز عند محمد جبريل ليس قاصرا على غزارة الإنتاج , فثمة تميز في مستوى هذا الإنتاج الإبداعي , وأحدثه روايته القصيرة التي نتناولها الآن " زوينة " الصادرة منذ شهور قليلة عن نادي القصة بالقاهرة العام الماضي .

تنتمي رواية " زوينة " إلى ما يمكن تسميته برواية الغربة , وهي تختلف عما أطلق عليه من قبل رواية الصدام الحضاري بين الشرق والغرب , كعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم والحي اللاتيني لسهيل إدريس وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح , والساخن والبارد لفتحي غانم , وغيرها , إننا هنا مع ( زوينة ) أمام نوع آخر من الغربة ,إنه غربة العربي فى وسطه العربي أو الشرقي بين أهله الذين يتكلمون لغته, فالبطل فى رواية"زوينة" ليس طالب علم يسعى على شهادة أو كسب معرفة أو تجربة حياتية جديدة , فيصطدم أثناء ذلك بالأخر حضاريا, ولكننا مع بطل تعلم وتكون في وطنه الأول , جاء إلى وطنه الثاني ـ إذا جاز التعبير ـ ساعيا وراء لقمة العيش أو بحثا عن الريال على حد قول أحد شخوص الرواية .
وتمثل " الغربة " التيمة المركزية المهيمنة على معظم شخوص الرواية , غير أنها تتجسد بشكل مباشر وموسع في المروية الرئيسية المهيمنة على الفضاء السردي , أي مروية الراوي / المشارك وزوينة , فالأول شخصية مجهولة الاسم , بيد أنه معروف الهوية , فهو صحفي وروائي معا , ولعل المؤلف قصد من عدم ذكر اسم البطل تنشيط أفق التوقع لدى القارئ , إحداث نوع من الالتباس بين شخصية الراوي وشخصية المؤلف الحقيقية محمد جبريل الذي عمل لفترة طويلة في عمان صحفيا في جريدة الوطن , وكان يمارس كتابة القصة والرواية في ذات الوقت .

أما الشخصية الثانية " زوينة " فهي فتاة عمانية قدمت من زنجبار , تعمل مضيفة أرضية في شركة طيران الخليج , وكانت أول شخصية التقاها الراوي عند نزوله لأول مرة أرض عمان .

غربة الراوي واغتراب زوينة :
كان الراوي قبل حضوره عمان يعيش حياة شبه مستقرة , حيث يعمل صحفيا في جريدة كبرى , ويسكن قلب العاصمة في ميدان الدقى , إنه لا يعيش في غربة أو يشعر باغتراب , لقد كانت مشكلته الحقيقية في ضيق ذات اليد , هذا الضيق الذي يجعله يبطئ في إتمام الزواج من خطيبته مها , إن غربة البطل واغترابه يبدآن في الواقع من لحظة مغادرته القاهرة والانتقال بعيدا عنها إلى مكان مغاير ومختلف اختلافا قاسيا إنه انتقال من الصخب والحياة والحركة واعتدال الجو إلى الصمت والسكون والرطوبة والحر الشديد , صحيح أن إحساس الراوي بهذا الجو المغاير يتبدل تدريجيا مع تنامي علاقته بزوينة والشروع في بناء قصة حب أجهضها المؤلف , لكن يظل الإحساس بالغربة مسيطرا على الراوي .

ويبدو لي أن المؤلف كان واعيا وهو يجعل زوينة تتجلى فيها تيمة الغربة , لذلك جاءت هذه الشخصية أعمق و أكثر صدقا من شخصية الراوي ,وهكذا كان من التوفيق والذكاء أن يأخذ عنوان الرواية اسم هذه الشخصية"زوينة" , إنها الفتاة الزنجبارية التي تفقد وطنها " زنجبار " فتطرد منه لتعيش في مسقط وطنها الأول أو الثاني شكلا , ولكنه في الواقع ليس وطنها أبدا , إنها في الظاهر مواطنة عمانية , تحمل جواز سفر عماني , لكنها من داخلها لا تنتمي إلى ثقافة هذا الوطن وتقاليده , من هنا تجتمع الغربة والاغتراب معا داخل شخصية زوينة , ويصير الأمر أكثر تعقيدا عندما تنجذب أو تحب الراوي ( وإن كان المؤلف لم يطور هذا الحب ) وهو مصري أو وافد , في الوقت الذي يفرض عليها الأهل علاقة شرعية , مثل قيد الحديد , تتمثل في مشروع خطبتها من ابن عمها زاهر , الذي يعد أكثر اغترابا منها ومن الراوي , حيث يدخل عمان بتأشيرة دخول , لأنه وإن كان عمانيا زنجباريا ليس له حق الجنسية , وعليه لكي يحصل على الجنسية أن يستقر في عما ويعمل ويتزوج من ط زوينة " , وهو ما لم يحدث , بقطع النظر عن الأسباب , لذلك يستمر حبل الوصال ممدودا بين زوينة والراوي إلى انتهاء سنوات الإعارة , فيجبر على العودة إلى مصر , ومن ثم يترك زوينة , وهنا يزداد اغتراب زوينة , فقد تركها كل من زاهر والراوي .

وإذا كان الراوي وقد عاد إلى مصر يستطيع أن يداوي جراحه بالعودة إلى خطيبته مها , فإن زوينة لا تستطيع مداواة جراحها , بعد أن أجبر زاهر أيضا على عدم البقاء في مسقط والعودة إلى زنجبار , وإلا فقد عمله هناك , وهذه الرغبة في الحرص على العمل تؤكد أن المشكلة الحقيقية للشخصيات هي الفقر , فالفقر سبب رئيسي في الغربة , كما قيل الفقر في الوطن غربة .
وقد تجلت براعة المؤلف محمد جبريل الروائية في توزيع هذه التيمة , أقصد تيمة الغربة المسربلة بالفقر على معظم الشخصيات رئيسية كانت أم ثانوية , سواء كانت نازحة ( وافدة ) إلى عمان أم مقيمة فيها , فمن الشخصيات النازحة عبد العال الذي يتحدث عن الموت , وتتكشف لنا مأساته الحقيقية , حيث في الوقت الذي يشعر فيه بالغربة والوحدة ويحرص على العمل جمع المال يترك امرأة خائنة هناك في القاهرة هي زوجته , وشخصية الصحفي الذي يوزع راتبه بين شرب الخمر حتى التسمم , والحرص على إرسال المال إلى أهله في مصر , ومن الشخصيات المقيمة التي تستحق الوقوف , لأن اغترابها ليس سببه المباشر البعد المكاني أو الفقر , إن اغترابها اغتراب روحي ثقافي في المقام الأول , أقصد شخصية " ناصر التميمي " الصحفي العماني الذي يأتي به صاحب الجريدة إلى الراوي كي يدربه على العمل في الصحيفة , إن ناصر موزع الجهد والوقت والنفس بين قريته البعيدة وبين المدينة التي يعمل
بها , بين تقاليد القبيلة وانطلاق المدينة , فوالده يصر على بقاء ابنه ناصر بجواره في ( قريات ) ولذلك لا نعجب عندما يموت ناصر بسبب حادث سير , أثناء عودته إلى قريته , وإن كان هذا الحادث يمثل في الظاهر السبب المباشر في موت ناصر إلا أنه في الوقت ذاته يعد المعادل الموضوعي لاغتراب ناصر وغربته .

البناء الدائري في زوينة :
يعتمد محمد جبريل في هذه الرواية بناء دائريا في عرض الأحداث , إذ تبدأ الرواية من نقطة ليست هي البداية الحقيقة في المتن الحكائي , فنلتقي مع السطر الأول بالراوي وهو في الطائرة وهي تكاد تحط على أرض مطار السيب : " تنبهت إلى اقتراب الطائرة من مسقط , حيث أضيئت اللوحة في أعلى " ممنوع التدخين .. اربط الحزام " بدت ـ من نافذة الطائرة ـ أضواء الشوارع والدوارات وشعلات البترول , أعددت نفسي للجو الخانق , والرطوبة العالية والصهد اللافح , قال الشيخ حمود النبهاني : أنت تستطيع دخول البلد بأية كمية من النقود أو الذهب أو البضائع , لكنك لا تستطيع أن تدخل بالخمر ولا المخدرات ولا الأفكار المتقدمة . إذا علم الضابط على حقيبتك بالطباشير , فإن من حقك مغادرة المطار إلى داخل المدينة ..
علا السلم الآلي ثم انفتح الباب .." ( الرواية , ص 10 . )

إن هذه الفقرة الاستهلالية ليست هي البداية الحقيقية لمتن الأحداث , إن مضمون هذه الفقرة يشير إلى خبرة المتكلم بجو عمان , لقد أعد نفسه للجو الخانق والرطوبة العالية , والصهد اللافح , كما أنه تحدث مع صاحب الجريدة عن المحاذر , إنها ليست المرة الأولى لسفر الراوي , إنها على الأقل السفرية الثانية أو بعد العودة من أول إجازة , إن جمل مثل : التدخين ممنوع ـ اربط الحزام ـ لا تستطيع , تشير بمفرداتها " ممنوع , اربط , الحزام , حرف النهي لا " إلى روافد الغربة والاغتراب اللذين تعيشها الشخصيات الرئيسية والثانوية في الرواية . كما أن جملتي " علا السلم الآلي , ثم انفتح الباب " تشيران بشكل قوي إلى استلاب الراوي , فالسلم يعلو وحده ليجبره على النزول , كما أن الباب يفتح آليا أو يفتح ليبدأ الحكي أو الرواية , ثم تقفل الرواية أو تنتهي الأحداث بالفقرة الأخيرة .

والراوي معلق أيضا في الهواء , وقد قفل الباب هذه المرة , قفلا نهائيا ليترك جرحا لن يندمل في عمان هو قلب زوينة الموزع بين زنجبار ومسقط والقاهرة , لنقرأ فقرة النهاية :
" أقلعت الطائرة
فككت الحزام من حول وسطي , وتهيأت لأخذ نسخة من الصحف المصفوفة بالقرب من الباب الأمامي .. بدت مسقط في صعود الطائرة مناطق متناثرة بين الجبال والصحراء البحر والزراعات القليلة . ميناء قابوس , وكورنيش مطرح , وألق الأمواج , والجبال المتلاصقة , والقلاع , والطوابي ، ومساحات الخضرة المحدودة تضاءلت ـ بارتفاع الطائرة ـ وشحبت , ثم لم يعد إلا الفراغ المحيط وصوت المحركات والطائرة تخترق أفقا من السحاب الأبيض المتكاثف .." ( الرواية , ص 154 . )

إن جمل مثل : أقلعت الطائرة , فككت الحزام , تهيأت لأخذ نسخة من الصحف المصفوفة , تشير بوضوح إلى انطلاق الدائرة وعودة الراوي إلى وضعه الأساسي قبل الذهاب إلى مسقط , فالإقلاع يشير إلى الانطلاق , وفككت يوحي بالحرية , وتهيأت يوحي بالاستعداد والبدء من جديد , لقد ترك الراوي غربته واغترابه خلف ظهره في مسقط , ترك الغربة والاغتراب لتتجرع سمهما زوينة التي استحق أن يوضع اسمها بامتياز فوق غلاف الرواية .